مشهد ساخر
“من المخطئ؟ من أمر بحفر هاوية يقع فيها الناس ليتضاحك المارة؟ أم من حفرها؟”
مشهد ساخر (حوار بين اثنين لا يعرف أحدهما الآخر، ولا يعرف العالم أنهما على قيد الحياة في مجموعة بأحد مواقع التواصل الاجتماعي لا يعرف بها أحد):
معلق1: إنما أنت أحمق، هل تقارن المطرب فلان ابن فلان بهذه الشرذمة من الخوارج لا يكادون يفقهون قولا؟ أتقارن الهضاب بالوديان؟
معلق 2: هذا فن قد عفا عليه الزمن وانطوى، والله بعقد الهاء سنظل هكذا رجعيين وستسبقنا أوروبا للمريخ طالما لا نزال نسمع تلك الكلمات المكررة والموسيقى القديمة!
معلق1: وهل تسمي أيها “الإنسان الحديث” هذا الذي تسمعه فنا؟ وهل تفقه أنت مما يقولون شيئا؟ إنما هي تخبطات من الموسيقى التي لا أجرؤ على وصفها كذلك إلا لعجزي عن إيجاد وصف آخر لها، إنما هي كتعثر أحدهم على السلم الموسيقي، ثم كأن هذا لم يكفهم أنك لا تكاد تسمع كلمة مفهومة حتى إذا ما سمعتها وددت لو تنزع أذنيك نزعا!
معلق2: لن أجيب على رجعيّ مثلك، فعندي ما يشغل بالي الآن، نحن في ثورة لنمنع اعتزال الفنان العظيم فلان، لا وقت لي أهدره عليك!
معلق1: ظلوا هكذا تهربون من الجدال لأنكم تعلمون أين الحق، حظررررر.
انتهى المشهد..
اعذرني على غرابة المشهد وهذه الأصوات الغريبة، إنهم فقط الجيران اخترعوا نوعا جديدا من الموسيقى يتعاون فيها أصحاب الدور الثاني مع الثالث، حسنا حسنا لنترك هذا وذاك ودعني أشغل بالك بهذا السؤال الذي ما ينفك يروادني كلما رأيت هذا المشهد الهزلي المتكرر:
ما هو الفن؟
كيف يُصنع الفن؟ وكيف نحكم على فلان أنه فنان عظيم؟ وبحق الله ما هو الفن؟
أليس هو مجرد شيء اخترعه الإنسان كباقي اختراعاته التي خاب منها ما خاب، وفلح منها ما فلح؟ لماذا يقدس الناس الفن هكذا؟ ما هي تلك القاعدة التي يحكم بها الناس على الناس؟ تلك القاعدة التي ستجعل منك أيها النكرة نجما يلمع في السماء؟! ولو شئنا الصدق، فإن اختراعا كالسيارة لهو أحق أن يقدسه الناس، لكنه الفن والفنانون، الفنانون والفن!
وإني لا أجد تفسيرا لهذا إلا أنه كما يصنع الناس طواغيتهم فإنهم والله يصنعون فنانيهم، فتجدهم يجعلون من حجر لا نفع له جوهرة فريدة يُحلّونها بالأساور والفضة والياقوت والطائرات الخاصة، حتى إذا ما تمكن هذا الحجر وصدق نفسه، حتى إذا ما استفحل وتوغل وأطلق جذوره وصار يتنفس الهيليوم بدلا من الأكسجين، رأيتهم يندبون حظهم قائلين أنى لفلان كل هذا ونحن لا؟ والله إنه لذو حظ عظيم! ناسين أو متناسين أنهم هم أنفسهم من جعله هكذا!
وهل يكفُّون؟ والله إنك لتجدهم كحالهم مع كل إطلالة لقمرهم المزعوم مقدسين أقواله وأفعاله كأنه مَلَك مُرسَل، حلال له ما هو حرام عليهم، ولو وجدوه في غياهب المفاسد لقالوا إنما نزل واعظا، ولو أُثبت عليه ما أُثبت لرأيتهم يتغامزون مولين الأدبار كأن لم يروا شيئا!
العامة سلاح ذو حدين
لكن _ودعني أخبرك بهذا سرا_ إن العامة لسلاح ذو حدين، لا يلبثون معك حتى ينقلبوا عليك، يريدون منك أن تجعل من نفسك ألعوبة لهم وإن لم تفعل ما يأمرون لتكونن من الخاسرين! أن يروا فيك كل ما لا يستطيعون هم أن يروه في أنفسهم!
فلتجعل يا أيها الفنان العظيم زوجتك ترتدي على الموضة ولتأخذ بيدها على البساط الأحمر في مهرجاناتكم الحفيلة لتسترضي العامة _الذين فرضوا عليك تلك القواعد_ وما يريدون حتى يعلقوا على صورتكما راضين: “ما أجمل الثنائي اللطيف!”، وإن لم تفعل فانتظر إذا هلاكك وكل أوصاف الرجعية والتخلف التي ستنهال عليك ولتستمتع بآخر لحظات لك على البساط الأحمر فلن تراه مجددا!
هؤلاء العامة الذين لن يسمح أحدهم أن ترى وجه زوجته (ناهيك أن ترى.. حسنا، ما يرونه هم!) لكنه يريد منك غير هذا لأنك.. حسنا أنت فنان عظيم. حلال لك ما هو حرام عليه، أليس هذا هو الفن؟ ووالله ما أرى الفنانين _كما يسمونهم_ إلا كتلك الدمى ذات الخيوط يحركها الجمهور من أعلى فلا تعلم من منهم يخدع الآخر!
من المخطئ؟
حسنا حسنا.. لنبتعد قليلا عن تلك الحروف الساخرة التي لا أدري لماذا في كل مرة تسيطر عليّ، ودعني أسألك عزيزي القارئ أن: إذا كنا نحن نشجع هؤلاء على ما يفعلون ألسنا هكذا الظالمين؟
بإحدى المسرحيات المصرية “العريقة” كان هناك مشهد استعراضي ل “فنانة” _وأعتقد أني لا أحتاج أن أوضح ماهية المشهد الاستعراضي هنا_ استقبله وختمه عامة المشاهدين بالتصفيق الحار والهتاف العريض والتصفير المبالغ حتى لتكاد ترى وجه الفتاة على المسرح ينطق أن: “ويحي! يبدو أنني حقا إذا فنانة!”
أخبرني عزيزي القارئ، ألم يصنعوا هم هكذا ما سيجعلونها لاحقا عليه؟ نفس الشيء الذي سيتعوذون بالله مشمئزين ممتعضين من أن تصبح عليه إحدى بناتهم؟! ودعني أطرح عليك ذلك السؤال مجددا:
“من المخطئ؟ من أمر بحفر هاوية يقع فيها الناس ليتضاحك المارة؟ أم من حفرها؟ أم المارة؟”
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
اقرأ أيضاً:
الفنان المشتبك… كيف يدافع الفن عن قضية؟