المادية هلاك للإنسانية – الجزء الأول
التعريف:
الكلام عن المادية يعني الكلام عن بعض تاريخ الأفكار البشرية واعتقاداتهم ، ومن المعلوم للكثير مدى صعوبة تحليل الوقائع التاريخية، لما تمثل من ترابط لعوامل معقدة ومتداخلة. ولكي لا يختلط الأمر يجب علينا -أولا- توضيح المدلول الاصطلاحي ” للمادية” حيث يوجد لها استعمالات مختلفة لا يمكن أن تكون كلها موضوع حديثنا. فقد تطلق المادية على مذهب فكري يقول (الأصالة للمادة ) ويعني بذلك الاعتقاد بالواقع الخارجي للمادة في مقابل النظر إليها باعتبارها من مخترعات الذهن وليس لها وجود خارجي كما يرى أصحاب النظرة (المثالية) .
ويوافق الاعتقاد بوجود الواقع الموضوع الخارجي للمادة محدد بزمان ومكان وأنها حقيقة متطورة محسوسة عينية غير ذهنية. أغلب أصحاب الفكر سواء كانوا ممن يؤمن بوجود إله أو لا يؤمن، بالرغم من الإيمان بتلك النظرة التي تؤكد على وجود خارجي للمادة لا تعني بالضرورة عدم وجود إله؛ لذلك يشترك في تلك النظرة كما ذكرنا المؤمن وغير المؤمن.
وقد تستعمل كلمة ( المادية ) ويراد بها إنكار الوجود اللامادي وحصر الوجود في العالم المادي فقط ، وأنه لا يوجد بالكون غير ما هو محكوم بقوانين المادة وداخل في إطار من الزمان والمكان والحس البشري، وغير ذلك ليس موجود. وهذا التعريف الذي يرى الوجود هو وجود مادي محسوس وما عدا ذلك ليس له وجود هو محور كلامنا وبحثنا حول (المادية).
العوامل التي أدت لوجود الفكر المادي
وما هي العوامل التي دفعت بعض الأفراد أن يؤمنوا ويؤيدوا هذا الفكر والاتجاه الفكري؛ حيث رفضوا ما وراء المادة أو الطبيعة، وبالتالي ينكرون وجود الخالق وينكرون كل ما هو غيبي. فلو نظرنا للجذور التاريخية لهذا الفكر؛ نجد أنها ليست وليدة فترات زمنية جديدة؛ حيث يرى البعض أن الفكر المادي هو نتاج ذلك التطور مثله كمثل العديد من النظريات الحديثة ، وهذه الفكرة يثبت الواقع بطلانها.
فالفكر المادي الذي يعتقد بوجود بعد واحد فقط للحياة ( البعد المادي المحسوس ) هو من الأفكار القديمة جدا، فبعض علماء اليونان القديم قبل عصر سقراط كانوا منكرين لعالم ما وراء الطبيعة، كما نجد بعض العرب -قبل الإسلام وبعده- ممن آمنوا بتلك الفكرة المادية للوجود، وقد عبر عنهم القرآن الكريم في مواضع كثيرة ، وذكرتهم كتب التاريخ والفكر ،
وبناء عليه نرصد أفكار المادية قبل التطور العلمي، وبالتالي هذا الفكر ليس كما يدعي البعض هو نتاج التقدم التكنولوجي والعلمي البشري هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد إيمان بعض العلماء بما وراء المادة هو خير دليل أيضًا على عدم علاقة التقدم العلمي والتكنولوجي بفكرة إنكار وجود إله أو إنكار ما وراء الطبيعة وغيرها من المعتقدات الغيبية التي يرفضها أصحاب هذا الفكر.
الفكر المادي يخالف الفطرة
بالنظر لعنوان سلسلة المقالات التي سنقدمها تباعًا بعنوان ( المادية هلاك للإنسانية) نؤكد على أن الفكر الأصيل والواقعي، يرفض أن يكون فكر مادي بالمعنى الذي أشرنا إليه، وأن الفكر المادي هلاك لأنه يخالف الفطرة ويزيف الواقع ، لذلك نرى أن هذا الفكر لابد أن يقابله فكر يفضح القصور فيه، ويؤكد على وجود البديل الفطري الواقعي الذي يناسب الإنسان بما هو إنسان عاقل مفكر له احتياجات مادية ومعنوية يعيش من عالم له جانبين مادي ومعنوي .
بالعودة للمسار التاريخي، نجد أن الفكر المادي أنتج في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مدرسة فكرية حديثة. وبالنظر للحالة الفكرية الاجتماعية التي كانت موجودة في أوروبا في تلك الحقبة، نرى قصور الكثير من المفاهيم التي قدمتها الكنيسة في الإلهيات؛ مما أثار حفيظة الطبقة المثقفة حول مفاهيم صفات الخالق وما وراء الطبيعة والكثير من التعاليم والمفاهيم الأخرى، بالإضافة لسلوك الكنيسة مع بعض أفراد المجتمع في ذلك الوقت، المُتمثل في العنف والاستغلال والتميز.
ويرى” لند بريك ” أن هناك الكثير من الأسباب التي تجعل الإنسان ينكر الكثير من الأمور الغيبية ولعل أهمها إنكار بعض العلماء فكرة وجود الله، وعدم إدراكهم لهذه الحقيقة من خلال مطالعاتهم، ويرجع ” لند بريك ” الأمر لعلتين رئيسيتين.
الأولي أنه غالبا ما كانت الظروف السياسية المستبدة أو الوضع الاجتماعي والإداري تؤدي لإنكار وجود الخالق.
وثانيا أن الفكر الإنساني يقع غالبا تحث تأثير الكثير من الأوهام، فعندما يتربى الإنسان على أفكار واعتقادات ثم يكبر ويكتشف زيف تلك الأفكار؛ فإنه يترك هذه الأفكار تماما ويخرج من ساحة الفكر وينكر كل شيء كرد فعل للصدمة التي لحقت به.
الخلاصة
وخلاصة الحديث في هذا العنوان أن كثير من المفاهيم والتعليمات الخطأ التي قد يتربى عليها الفرد من الصغر أو المجتمع ككل ، حيث تطبع في ذهنه مفاهيم و معاني معينة، ثم يتم كشف زيف وبطلان تلك المفاهيم وضعفها أمام المفاهيم المنطقية والحقائق العلمية ، وتصبح ردة فعله في الغالب -أو كما حصل في الغرب- عنيفة تصيب المجتمع ككيان والأفراد كمُشكِّلين لهذا الكيان. وقد تبعت هذه الردة العنيفة من المجتمع في الغرب أن انتشرت حالة من الرفض والغضب على كل معتقد غيبي ، كنوع من الانتقام من كل ما قد قيل لهم عن الغيبيات سواء كان صحيحًا أو باطلاً.