مقالاتقضايا شبابية - مقالات

خواطر متفرقة عن العولمة ..  عالم الأفكار والرؤية المادية

المشهد الأول: فتاة في مقتبل العمر، تمت خطبتها لشاب ذي خلق كريم، إذ يشتركان في الأفكار نحو حياتهم والغاية منها، الهدف من زواجهما بشكل عام، المرجعية التي يستندان إليها في تفاصيل حياتهما، حقوق وواجبات كل طرف، طريقة تربيتهما لأبنائهما، وغيرها من الأمور الهامة التي يجب على كل شاب وفتاة مقبلين على الزواج حسمها والاتفاق عليها.

تمت الخطبة، وبدأت تجهيزات الزواج من شقة وعفش وخلافه.

يُفاجئ الشاب والفتاة برغبات أهلهما في تجهيزات معينة، نقصد بالتجهيزات المعينة عشرات من أطقم الفوط والمناشف، ومفارش السرائرغالية الأنواع والمختلفة كذلك، فضلا عن النيش الذي سيتم ملؤه بأنواع الأطباق  والكاسات المختلفة.

أضف إلى ذلك مستلزمات المطبخ الكثيرة، والتي يؤدي الكثير منها نفس الدور، لكن كل منها نوع مختلف أو ماركة مختلفة بقطع مختلفة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

غير قطع الأثاث الكثيرة والكبيرة كذلك، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: البار، الذي لا ندري صراحة كيف دخلت هذه القطعة لمجتمعنا ذي الأغلبية المسلمة وتحولت لقطعة أساسية في أثاث كل عروسين؟!

لا يوافق الشاب والفتاة على كل ذلك، فيتعلل الأهل بأن ذلك هو عرف الناس في مجتمعنا ولا يمكننا تغييره!

يتساءل الشاب والفتاة، كيف بدأ هذا العرف البغيض؟ ومن هذا المخادع الشرير الذي أقنع الناس في مجتمعنا أنهم يحتاجون لكل تلك الأجهزة والمفروشات والستائر والأطباق- والتي يمكن للعروسين استغلالها لبداية مشروع محل للأدوات المنزلية وسوف تكفي!؟

كيف تسربت تلك الأفكار الغريبة إلى أذهان الناس في مجتمعنا؟!

المشهد الثاني:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

شاب في العشرينات من عمره، في السنة الأخيرة لدراسته الجامعية، يحب القراءة، يقرأ في كل المجالات، يستهويه كل شيء، وخاصة الكتب الفكرية، لكن تفضيلاته غريبة؛ إذ تجمع بين تيارات فكرية مختلفة بعضها ربما يعادي الآخر.

صديقنا لا يشعر بغضاضة في ذلك.

حياة صديقنا موزعة بين حضور دروسه في الجامعة، ودائرة الأصدقاء الذي بينهم يجد نفسه-كما يعبر- مع الحرص على حضور الندوات والدورات التثقيفية.

دائرة الأصدقاء تجمعهم اهتمامات مشتركة، يخرجون سويا يوميا تقريبا، يتبادلون النقاشات الفكرية، ينتصرون لذلك ويلعنون هذا، يلتذون بشدة بمشاهدة فيلم جديد أو تجربة مطعم جديد، ويأخذهم ذلك لأبعد مراحل السعادة والإثارة كما يعبرون.

يشتركون في الإيمان بأنه لا توجد حقيقة مطلقة، كل شيء خاضع للآراء واختلاف وجهات النظر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حياة صديقنا رغم الزحام الذي يظهر فيها، والشغف الذي يظهره في لقاءاته بأصدقائه، حياةٌ للأسف خاوية من المعنى، ولخلوها من المعنى والهدف يحسها فارغة رغم كل ما يملؤها، يشكو كثيرا من الإحساس بالتوهان وعدم الثبات والفراغ الداخلي، سريع الإحباط، متقلب المزاج.

صديقنا يعاني من مشكلة كبيرة، لكنه لا يستطيع تحديدها!

المشهد الثالث:

صديقان يتابعان أحدث الأخبار على صفحات الفيس بوك، يجذب أحدهما خبرا عن مسيرات العودة التي يقوم بها أهل غزة تجاه أراضيهم المحتلة في 48، وعدد الشهداء الذين سقطوا جراء استهداف الإسرائيلين لهم.

يتعجب صديقنا من إصرار أهل غزة على التمسك بأرضهم رغم السطوة الإسرائيلية، والبطش المفروض عليهم، والحصار والتجويع، ويعلل موقفه الرافض لتحركهم بأن وجود اسرائيل أصبح أمر واقع علينا القبول به، وإيقاف نزيف الدم الذي يحدث، فموازين القوة العسكرية والتكنولوجية لصالحها والأمر محسوم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ينقل وجهة نظره لصديقه الآخر، يدافع الآخر في البداية دفاعا هشا عن حق الفلسطينيين في أرضهم، وفي النهاية يسلم بوجهة نظر صديقه، بأن موازين القوة المادية حسمت المعركة بالفعل!

قد تبدو تلك المشاهد بعيدة كل البعد عن بعضها، لكنها في حقيقتها وبتأمل بسيط تنبع من نفس المصدر!

الأفكار والمبادئ التي قام عليها كل مشهد، هي الأفكار والمبادئ التي تبرق في عالمنا حاليا، والتي يصدرها لنا النظام العالمي الذي يحكم عالمنا حاليا.

يسيطر على عالم اليوم مجموعة من الأفكار والمعايير والمبادئ، مبنية على رؤية مادية للعالم، لا تعترف إلا بما هو مادي، تختزل الإنسان في جانبه المادي فقط فتعترف بلذات جسده ورغباته، وتتنكر لرغبات روحه وعقله التواق للأخلاق والمعرفة الصحيحة، تختزل السعادة في تحقيق الملذات المادية، فانتجت نمط حياة استهلاكي فرضته على العالم أجمع، حتى صارت (البراندات) وسلاسل المطاعم العالمية لغة إنسانية مشتركة، يفهمها الجميع أيا يكن مكانه من العالم!

ذلك النمط الاستهلاكي الذي يتفنن في إقناعنا باحتياجنا الشديد لشراء منتجات جديدة طول الوقت، كانت حياتنا مستقرة تماما في الغالب دونها، ولم نكن نشعر بأن شيئا ثمينا جدا ينقصنا، كما تصدر لنا الإعلانات المختلفة!

ذلك النمط الذي يستنفذ أرواحنا وأوقاتنا ومرتباتنا كذلك، ويلقي بنا في حلقة من الاستهلاك، ثم ظهور منتج أحدث فالاستهلاك مجددا، ثم ظهور منتج أحدث فالاستهلاك مجددا، وهكذا دون توقف! وطبعا المستفيد الوحيد من ذلك هم أصحاب رأس المال، الذين تتضاعف أرصدتهم باستمرارنا في الشراء.

تلك الأفكار والمبادئ نفسها التي لا تعترف بالمعنى والقيمة، فقط المادة والرصيد البنكي وحديث أصحاب المال، نقول هذه الأفكار تترك الإنسان خاويا من الداخل، رغم ما تشغل به يومه من مصالح ووظائف وأرصدة بنكية ترتفع وأخرى تهوي، إلا أنها في ظل كل ذلك، لا تقدم له إجابة على سؤال من هو؟ ومن أين أتى إلى هذا العالم؟ وإلى أين سيكون مصيره؟

وحتى لو قدمت إجابات، فهي إجابات كلها تدور في اطار السباق المادي الذي تفرضه علينا، متجاهلة تماما حقيقة كون أرواحنا ونفوسنا الغير مادية، لا تسعدها فعلا الصفقات الناجحة وارتفاع قيمة الأسهم في البورصة، بل تحتاج للاستقرار الذي يحققه إيمان الإنسان بقضية أكبر منه، وسعيه لغاية يعرف أنها حق، وأنها مطلقة وثابتة.

للأسف تلك الرؤية المادية تأخذ من الإنسان الثبات واليقين المبني على البراهين والأدلة، لتلقي به في عالم تقنعه فيه أن كل شيء نسبي، وخاضع للآراء وقابل للتغيير، لغتها الوحيدة هي لغة السوق والحسابات المادية.

ولسنا ندري إذا كان كل شيء نسبي، وخاضع للآراء وقابل للتغيير، فلماذا لا تكون تلك الرؤية المقدمة أيضا نسبية وخاضعة للآراء وقابلة للتغيير؟!

هي نفسها الرؤية المادية التي تعترف بحق القوة، وبأن القوي يستطيع فرض إرادته، فتسعى لأن تزرع فينا القبول بإسرائيل كدولة قامت على أشلاء الفلسطينيين وأراضيهم المغتصبة، قتلتهم وشردتهم وما تزال، وعلينا نسيان ذلك أو تناسيه والتعامل مع الأمر الواقع، وكأن الحقوق تسقط عن أصحابها بالتقادم، وكأننا بلا ضمير وعقل يخبرنا أن العدل هو المعيار الذي يجب أن تحتكم له السلوكيات الإنسانية، وأن الظلم واغتصاب الحقوق لا يقيم دولا بل مستعمرات، وأن الحقوق لا محالة مصيرها لأصحابها، وأن كل سعي في سبيل العدالة وفي سبيل الحق، يستحق أن يبذل الإنسان نفسه لأجله!

تلك المشاهد المختلفة كلها نبعت من مصدر واحد، هو تبني رؤية مادية تنكر القيم والمعاني المطلقة، ولا تعترف إلا باللذة المادية، وخلاصنا الوحيد هو في النجاة بأنفسنا ومجتمعاتنا من تلك الرؤية.

 

اقرأ أيضاً:

تأملات في فيلم الكيف الجزء الأول

تأملات في مسلسل ذئاب الجبل

الكوميديا ودورها في الغزو الثقافي

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة