عاهات وتقاليد
قبل أمس الأمس
أتذكر الأمس جيدا، أما قبله فلا أذكر منه شيئا، كل ما قبله! ربما لأنه الأمس المميز، أو ربما لأنه الأمس .. وليس قبل! غدا سيتضح الأمر، غدا سيكون اليوم أمسا و الأمس قبلا، فلننتظر ولنرَ إن كنت أذكره لتميزه أَم لقربه!
أما عن قبل أمس الأمس فأنا لا أذكره أيضا، ذلك بأني لم أحضره أصلا. لكنني تمنيت كل التمني لو ولدت في ما قبل أمس الأمس، وكبرت في أيام الزمن الجميل، أيام «سعيدة يا هانم» و«بونسوار»، أيام «تفضلي يا مادموزيل»، أيام «ابعث لي هذا التلغراف»، وأيام «أكتب إليكِ رسالتي هذه»، وهو يكتب على ورق لا على شاشة، ويكتب بالقلم أو بالمِحبرة لا بأنامله! أيام حضرة «الباش كاتب»، أيام «الترومباي».
زمن كانت فيه الأنثى أنثى والرجل رجلا، كانت أنثى بردائها بفستانها القصير أو الطويل المهندم، والذي يشي على كل حال بروح الأنثى، والذي انقرض حديثا حتى أصبح زيا أنثويا مسترجلا، تراها خلف كاميرا السبعينات وعلى شاشات الأبيض والأسود من التلفاز بفستانها وبكعبها الأنثوي الذي لطالما جرت به وتسابقت مع أرض الطرقات، ولجرت معها كاميرا السبعينات، تُرينا ريما يتمايل بل يتسارع، وكلما تسارع ازداد جمالا وتصبح هي، ويصبح كعب حذائها قضية رأي عام في الإنتاج الفني السنيمائي خلال دقائق كاملة.
عقائد الأجداد
حقا، كنت أتمنى.. ولكن لا بأس، فأنا اليوم أتذكر الأجداد أجدادي، الذين يقترب زمانهم من زمان «سعيدة يا هانم». إني أشتاق لجمع الأجداد كثيرا، لقد اشتقت لقلوبهم الطيبة، ونواياهم الحميدة اشتياقي لليلة شتاء باردة تفرح فيها الجدة بجمع أحفادها حول موقد النار، تبصر النار بعينيها قائلة لهم: “لا حرمكم الله منها دنيا ولا آخرة!” نوايا طيبة وإن خاب التعبير، وإن خاب اللفظ لا يخيب المعنى ولا تذهب النية هباء، نية تمني الدفء والأمان طوال حياتهم، وحتى بعد موتهم.
ولقد رأيت من الأجداد ما رأيت، واعتقدت من عقائدهم ما اعتقدت، عشت من الأيام معهم ما حييت بل ما هم حيوا، وسمعت من الأقاويل ما أنصت، وأخذتني الحياة بأفكارها معهم ما انسجمت، ورأيت من العاهة والتقليد ما بقيت، لكنني حتى الحين لست أدري ما علاقة «الحازوقة» بالفزع.
«الحازوقة»
هي ذلك الصوت الذي تصدره على غير إرادة منك. قالت لي خالتي يوما، عندما سمعت «حازوقتي» تعوق حديثي، وأحيانا تعوق العمل
– “أنَّى لك تسرقين البيض من فلان؟! إنه من خيرة الجيران، أهذا ما أنشأناك عليه يا بنت الأخت؟!” قالتها، وبكل ثقة!
أي جيران؟! وأي بيض؟! ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟ أنا حقا لم أفعل شيئا، أقسم أني لم أسرق شيئا ولم أَرَ بيضا! ماذا حدث؟! هل ذهبت «حازوقتي»؟! أَم أنني أرسلتها بعيدا حتى أستطيع الدفاع عن نفسي؟! قهقهت الخالة، وقالت:
– بالطبع إن سرق الجميع، لن تفعليها أنتِ، أنا أعرفك جيدا، ولكن فقط أردت أن تفزعي.
– لماذا يا خالة؟!
– الحازوقة تذهب بشرب بعض من الماء حينا، أو بفزع أحايين كثيرة، يا بنت الأخت.
هذا هو الفزع، وهذا هو العلاج كما يرون، والعجب كل العجب أنك حقا لا تسمع للشهقة صوتا بعدها! لست أدري أهو الفزع المعالج؟! أم أنه صوت الخالة الضخم أخمدها خمدا؟! أم أنها الصدفة؟ ويتكرر الموقف ويتكرر البيض، في كل مرة يذكرون سرقة البيض، وكأن لا شيء بالدار ليُسرق إلا البيض! أبيت جيران هو يا خالة أم دار دجاج؟!
«العصفور»
ليس فقط الدجاج من نال شرف التقليد بل العصفور كذلك، يقضي حاجته، حينها يدخل تاريخ الخرافة. فلو أسقط عليك عصفور برازه يوما ما عن قصد أو عن غير قصد، كل عصفور وضميره، فهنيئا لك! لقد قالوا إنه لبراز وهو للحظ جالب، أو أنك ستحظى قريبا بثياب جديدة، وحتى الآن لم أستطع فهم: كيف لبراز أن يجلب سعدا وهناء؟! تُرى كيف؟!
لقد أسقطوا عليّ برازهم مرارا وتكرارا، ولم أَحظَ حتى اليوم بثياب جديدة، دائما ما كانت الثياب الجديدة تحظى بي.
«حبل الخيط»
ويوما ما كانت أختي تخيط ثيابها، وما إن انعقد حبل الخيط والتف كثيرا وزاغ مساره بعيدا عن سم الخياط، قالت لها جدتي:
– إن أحدا ما يتحدث عنك الآن، ويطعن قولا فيكِ! هكذا يعتقدون أن أحدا ما يغتابها ما إن انعقد حبل الخيط بين يديها! ثم ماذا يا جدة؟ يا جدتي الكل يهمز ويلمز في قريتك، ولو أن ما تقولينه حقا لما خاط أحد ثيابه أبدا، حتى مصانع الملابس يغتاب بعضها بعضا، فلو أن الموضوع كذلك ما أنتج مصنع واحد ملبسا واحدا، ولأصبحنا حفاة عراة العاهة والتقليد.
ردت قائلة: أتعلمين متى يكف الناس عن اغتياب بعضهم بعضا؟
قلت: لا.
قالت: في الليل.. ذلك بأن خياطة الثوب في الليل غير مستحب، يكف الجميع عن خياطة الثياب فلا تنعقد الخيوط، وتذهب الغيبة.
«نعيق الغراب»
يا للجدة! ما كنت أعلم أنها فيلسوفة زمانها إلا اليوم! وهي لا تكف عن نصح الإخوة وخاصة تلك التي تزوجت ولم تنجب بعد، تنصحها بالذهاب إلى المقبرة، وتطلب لها بعض الحجارة من أرض الحجاز كي تخط عليها ومن ثم تحمل وتنجب! وهي لا تكف عن تذكير والدي بوضع قبقاب مُعلَّق على الباب منعا للعين والحسد، وتحمل هموم الدنيا فوق طاقتها لو سمعت غرابا ينعق بجوار المنزل، تقول:
– هذا الأسود يجلب معه التشاؤم، ويعني أن أحدا من البيت سيذهب قريبا إلى ربه.
لقد سمعت كثيرا نعيق الغراب، في كل مرة كنت أتذكر قصته مع أبناء آدم، وتذكرني هي بقصة التشاؤم، إن له أعواما ينعق، ولم يذهب أحد إلى ربه، ولا حتى قط الدار.
«قطرات المشروب الباقية»
أما يا صديقي إن زرت أهل بيت يوما، وكان لأهل البيت من البنات خلف نصيحة ذهبية، إن قدموا لك شيئا للضيافة يشرب -وسيقدمون بالطبع- إياك أن تترك مما قدموه شيئا بالكوب! أعلم أنك رجل ثقيل ذو «إتيكيت» وتريد أن تبقي ولو جزءا بسيطا من المشروب في كوبك، ولكن إن تفعل ينهروك قائلين:
– أنَّى لك أَلا تنهيه؟! هَلَّا أَكملته يا رجل، ولا تبقِ شيئا فيه؟ أَما تخشى على بناتنا البوْر؟! اقترب قليلا يا صديقي، وأعطني أذنيك، ذلك بأنهم يعتقدون أن قطرات المشروب الباقية تبير بناتهم، أي تُبقيهن بلا زواج، فإن حدث البور يا صديقي مع محض الصدفة ستكون أنت المبير، وقد تكون الزوج رغما عنك إصلاحا لما فعلت، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
«القهوة» و«رفة العين»
أما إن كان المشروب قهوة، ولسبب ما قد مال وانسكب قالوا:
– ويحك، إنه لَخَير (دلق القهوة خير).
وأخيرا وليس آخرا.. لا تخبر أحدهم برفّة العين حتى وإن وصل اختلاج العين للحاجب، فإن فعلت فزعوا، وقالوا: ما الاختلاج إلا لأمر خطير جالب. قالوا مصيبة! وأنَّى لمصيبة أن تأتي برفة عين؟ وما للعين بالمصائب؟! وكيف تُعقَل بعلاقة، أعند العين علم غيب؟ أم أنها الخرافة؟!