جاهلية المآتم
في لقاءات عدة فكرية ووعظية حاولت أن أقدم للناس وجهة نظر الإسلام الحقيقية في ضوء جوهر مقاصده التي تختصرها آية: ) إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (الأنعام 162)، أي أن الإسلام يتدخل في كل شيء من أصغره إلى أكبره، من حقيره إلى عظيمه، من جزئه إلى كله، وهو إذ ينظم ذلك فإنما يقصد إلى إتمام نعمة الحق على الخلق إذا اتبعوا منهجه، وشقاؤهم إذا أعرضوا عن منهج الله سبحانه.
كما يقصد إقامة الواحدية المطلقة لله الواحد الأحد، فالصلاة خالصة لله، والذبح خالص لله، والحياة كلها خالصة له سبحانه، والممات له حبا فيه وإقبالا عليه وشوقا إليه أو ذودا عن دينه ودفاعا عن العقيدة عبر الجهاد والشهادة، ثم في الأخير لا يخلو شيء من هذه الأمور من دين الله الصحيح، فالصلاة تكون بعلم، والحياة من معاملات وسلوكيات تكون وفق منهج الله وضوابطه، والممات وما يتبعه من مآتم وأحزان يكون وفق المنهج العام لله، بلا ابتداع ولا مغالاة، أما إذا تم شيء من هذه الجوانب كافة على غير منهج الإسلام فهو دعوة صريحة إلى الجاهلية الأولى، خاصة إذا كان معنى الجاهلية كل ما يبتعد عن جوهر الإسلام أو يعاديه أو يُضاده.
بدع ابتدعها البشر
أقول هذا والواقع يشهد على مدى ما وصل إليه هذا الدين من عبثية ورجس ما أنزل الله بهما من سلطان، فاعتدينا على شريعة الله ومنهجه، وابتدعنا دينا غير الدين باسم الدين، وأوجدنا إلها غير الله باسم الله، واخترعنا شريعة غير الشريعة باسم الإسلام ، ويكفى للدلالة على هذا الألم ما يُحدثه الناس في مآتمهم من بدع.
قرى بأكملها لا تقبل إلا بقارئ معين من الإذاعة يتحصل في الليلة الواحدة على مبلغ ثلاثين ألف جنيه، وقرى أخرى تتباهى بمآتمها، بحجم الإضاءة وعدد الكراسي الفاخرة الوثيرة، وعدد ما يُنصب من زينة وخيام وسجاد، وعدد المعزين وأجر القارئ، كل هذه الأكاذيب والخيلاء الكاذبة من مداعي الفخر والتباهي والتعالي بين الناس، وينظر الفقير إليهم ولا يجد لميته ثمن الكفن ولكن يستدين لأجل إتمام عمليات المنظرة الكاذبة والفارغة خوفا من نظرات الناس المشمئزة ومصمصة الشفاه.
وقرى أخرى تقيم العزاء ثلاثة أيام، كل يوم بقارئ مختلف وإضاءة كبرى وصوان كبير. وقرى تقيم ما يسمونه “الأربعين” و”الذكرى السنوية ” أيضا بذات التكاليف وذات العنجهية والجاهلية والمنظرة. مئات المشاهد والعادات التي ينتحر العقل أمامها!!
وما جدوى هذه التكاليف؟ وما فائدة هذا البذخ؟ وماذا ينال الميت منه؟ لا شيء أبدا يناله من هذا العهر، فلا ينفع الميت إلا الصدقة أو العلم أو الولد الذي يدعو له، أو أثره الطيب الذي يبقى بعد مماته من زرع يأكله إنسان أو طير أو حيوان، أو علم ينفع به الناس أو أي أثر تحمد عاقبته، أما غير ذلك فلا جدوى منه ولا خير يرجى من ورائه. وما مبرر أولئك الذين يرتكبون هذه الحماقات؟
تقليد الآباء دون تفكر
لا شيء غير تقليد الآباء ووجود معايير مغلوطة للشرف. والقرآن يذم المقلدين للآباء في غير موضع: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ( (المائدة104)، )وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( (لقمان21)، )بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ( (الزخرف22).
حتى عبادة الأصنام لم يعرضوها على عقولهم، وإنما تأثروا بالعادة والتقليد فقالوا: )قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ( (الأنبياء53)، )قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( (الشعراء74). حتى الفواحش يفعلونها ويعترفون بها، ولا مبرر لهم غير عبادة السلف من دون الله، من دون الارتكاز إلى العقل: )وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا ( (الأعراف28). منطق اللامنطق، العهر بعينه، لا عقلانية ولا قبول للحوار العقلاني، هذه قناعات لا سبيل إلى تغييرها في فكرهم، هذا ما يصرون دوما عليه، وكأن ما يفعله الآباء قد حاز درجة المقدس الذي لا فكاك منه ولا نقاش فيه.
وأمثال هؤلاء في حاجة إلى إعادة ترتيب أفكارهم وتدريبهم وتثقيفهم من جديد بعد هدم ونقض ما حوته عقولهم من سموم، وتعويدهم احترام العقل واللجوء إليه والقبول بموضوعيته وتجرده، وإلا فلن يكون إلى إقناعهم من سبيل.
نوع آخر من البدع “الجاهلية الأولى”
وطائفة أخرى تنظر إلى موضوع المآتم والبذخ فيها على أنها قضية شرف، فدوما تجد على ألسنتهم عبارات “نفعل ما يليق باسمنا أو بعائلتنا “، أو “لابد من مأتم تتحاكى به الناس ” أو “لابد من مأتم يليق بالحاج فلان أو بفلان “. ومثل هذه التعبيرات قد غزت قطاعات كبرى من مجتمعاتنا، من أبناء الدين الخاتم، أبناء العقل، أبناء المستوى الرفيع للإنسانية، وهي عبارات لا تمت إلى الإسلام بصلة بقدر ما قد استُعيرت من الجاهلية الأولى.
وما دخل الشرف بالفشخرة والمغالاة في المآتم؟! الشرف الحقيقي في طاعة الله سبحانه، في إقامة سنة نبيه (ص) وليس في معاداتهما معا، ليس في المنظرة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، التي لا تفيد أمة في قنطير ولا قطمير.
الشرف الحقيقي
الشرف الحقيقي في التزام سنة رسول الله (ص)، في الإحسان إلى الفقراء والمعوزين بدلا من هذه النفقات الطائشة التي لا تفيد حيا ولا تنفع ميتا، فالصدقة الجارية أولى، وإطعام البائسين أولى وكسوة العراة أولى، وأبواب الخير أولى، كل ما يقدم من نفع للإنسانية أولى من بذخ لا مردود له غير الفشخرة والتباهي والكبر، والثلاثة حاربهم الإسلام ووقفت لهم الإنسانية بالمرصاد، الإنسانية القيمية لا البشرية، الإنسانية الباحثة عن الإنسان لا المضادة لوجوده.
والنبي الكريم (ص) يخبرنا بأن هذا كله رجس من عمل الشيطان لا قيمة له، بل ضرره أكبر من نفعه حال تكالب الناس على هذه العادات وتباهيهم بها وجعلها معيارا للشرف أو عادة الآباء التي لا سبيل إلى قطعها، والميت لا ينفعه من ذلك شيء، بل هو كله للأحياء فشخرة وتعالي، والله يكره التعالي: )إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ( (القصص4)، )تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ( (القصص83).
أما ما ينفع الميت فقد حدده الرسول الأكرم (ص): “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له “([1]). هذه هي الثلاث النافعات بعد الموت، لم يأت ضمنهم العزاء ولا كبار القراء ولا المشاعل والمباخر، فقط إما صدقة، وإما علم، وإما ولد صالح يدعو لوالديه بالرحمة.
أما ما يعتاده الناس من مآتم كبرى، يطوف فيها ولدان بصنوف المشروبات، فهذا يمثل المنظرة ويدل على التباهي والتكبر برزق الله وعطائه، وأن تصير هذه العادات ضمن مئات العادات الأخرى الباطلة واللامنطقية راسخة إلى حد ظن المنطقية والعقلانية فيها، فتلك مصيبة أعظم، وأن يصر عليها المتعلمون وأرباب الشهادات العلمية الرفيعة فتلك أعظم من سابقتها، لأنهم – وهم أهل العقل – ينحون العقل جانبا ويقدمون عبادة الأسلاف والآباء والمعايير الباطلة للشرف على ما يقتضيه العقل وتراه الحكمة.
ضرورة الاحتكام إلى العقل
إن هذه المنظرة ليست من الدين في شيء، ولن نصنع أبدا بتلك الأهواء مستقبلا تحترمه الأمم، ولن نخطو خطوة واحدة للأمام ونحن باحثون عن الشكل لا المضمون، العرض دون الجوهر، فتلك هي الآفة التي طالما حاربها الدين: )وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ( (المائدة15)، )وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( (الجاثية18)، )أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ( (الفرقان23).
وواجب الأمة بأسرها أن تحتكم إلى العقل في كل عاداتها وتقاليدها فما كان حسنا قبلناه، وما كان سيئا رفضناه. وهذه من العادات السيئة التي تعمق الجاهلية الأولى في البذخ والإسراف والتباهي بلا أدنى مردود ديني أو دنيوي، بل هو التبذير والتعالي لا أكثر.
على العلماء الحقيقيين الذين يرجون الله واليوم الآخر أن ينظروا بعين بصيرة ناقدة إلى تلك العادات المرذولة، أن ينظروا إلى النبي (ص) وكيف كان يتعامل في مثل هذه المناسبات: “اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد شغلهم أمر صاحبكم “([2])، لم يكن يدعو قراء القرآن وهم كثر حينئذ، ولم يكن يصنع صوانا أو إضاءة أو أي من تلك المراسم، بل كان أهل الميت يتلقون العزاء لمدة ثلاثة أيام لا غير، لا قارئ ولا صوان ولا إسراف.
على العلماء أن يوجهوا الناس نحو فقه الأولويات وفقه الواقع وفقه المقاصد، فالإنفاق على أبواب العجز والعوز أولى من المنظرة والفشخرة، والميت ينتفع بالصدقة الجارية لا بالقارئ ذي الثلاثين ألفا، وإلا فلن تعالج مشكلات أمتنا ما دمنا نرى الباطل وندير له ظهورنا، ونرى الحق ونغمض عنه أعيننا ولنا في كل حياتنا الأسوة برسول الله (ص) )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( (الأحزاب27)، )وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ( (الحشر7).
أما من أصر على عبادة السلف أو قلب معايير الشرف بتلك الصورة فهو يهدم الدين، يثور ضد العقل، وكلاهما إثم كبير وشر عظيم، وفي هذا بلاغ وحجة على العالمين.
[1] ) سبق تخريجه
[2] ) رواه ابن ماجه والترمذى برقم 3132
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
اقرأ أيضا:
الجهل أصل كل مشكلة … ولكن ما الحل!؟
الأوهام الأربعة – هل حقاً كان سبب الخرافة والجهل في عصر النهضة أربعة أوهام؟