هل التنمية المنشودة تنمية اقتصادية أم اجتماعية؟ أم تنمية تشمل كل جوانب الحياة؟
يعتبر موضوع التنمية من أكثر الموضوعات شيوعا في الكتابات السوسيولوجية المعاصرة، وبخاصة تلك الكتابات التي تهدف إلى وضع خطط محددة للارتقاء بالمجتمع، وأصبحت “التنمية” هي المقصد والغاية التي تسعى كل المجتمعات بمختلف مستوياتها سواء كانت متقدمة أو متأخرة أو في سبيلها للتقدم إلى تحقيقها والوصول إليها لما تحمله في طياتها من تقدم للمجتمعات، والأساس لدفع تلك المجتمعات نحو الأخذ بأساليب التقدم والتحديث.
بداية ظهور الفكر التنموي
لقد كان الفكر التنموي في بداية ظهوره عقب الحرب العالمية الثانية يكاد يختزل التنمية في شيء واحد وهو النمو الاقتصادي، أي التطور في متوسط الدخل الحقيقي للفرد، على أساس أن النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية مفهومين مترادفين، وأن بتحقيق أحدهما يتحقق معه التنمية المنشودة، وفي هذا الصدد ذهب الاقتصادي الأمريكي جيرالد مير Gerald Meier _الخبير لدى الأمم المتحدة_ أن التنمية الاقتصادية هي “عملية يرتفع بموجبها الدخل القومي الحقيقي خلال فترة من الزمن”.
الفارق بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية
إلا أن جمهور الاقتصاديين يفرقون بين النمو الاقتصادي Economic Growth والتنمية الاقتصادية Economic Development ، حيث يراد “بالنمو الاقتصادي” الزيادة في الناتج القومي الحقيقي وفي نصيب الفرد منه المتحققة في مدة من الزمن، أما مفهوم “التنمية الاقتصادية” فإنه أشمل وأوسع من مجرد الزيادة في الدخل الفردي الحقيقي في مدة معينة من الزمن؛ النمو الاقتصادي يعكس جانبا واحدا فقط من جوانب التنمية الاقتصادية وهو الجانب الكمي،
في حين أن التنمية الاقتصادية تشمل إلى جانب النمو التغيير في البنيان الاقتصادي، وفي النسب والعلاقات الاقتصادية الهيكلية، كالنسب والعلاقات بين فروع الاقتصاد القومي وقطاعاته، وأهميتها النسبية في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، وفي استخدام الأيدي العاملة واستيعابها وفي نسبة الادخار والاستثمار من الدخل القومي وغيرها. الأمر الذي يشير إلى أن التنمية في بداية الأمر لم تكن سوى مرادفا للنمو أو التنمية الاقتصادية باعتبارهما شيئا واحدا.
ولعل السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هنا، إذا كانت التنمية تتحقق بتحقق أهداف النمو الاقتصادي المتمثلة في تحسين مستوى الدخول، وتخفيض عدد الذين يعيشون في فقر مطلق إلخ، فكيف نحقق حدا أدنى معقولا ومناسبا من مأكل ومشرب ومسكن ومياه نقية للشرب، وتعليم أساسي وعناية صحية، وإصلاح الدولة، وحماية البيئة والموارد الطبيعية، والمشاركة الشعبية، وحق تقرير المصير وغيرها من الحقوق والحريات التي يمكن أن يطلق عليها الحقوق الطبيعية للإنسان أو اختصارا حقوق الإنسان Human Rights؟
التنمية الشاملة
إن الإجابة على هذا السؤال تحدد بدقة المقصود بالتنمية الشاملة، تلك التي لا تهتم بجانب واحد فقط كالجانب الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، وإنما تشمل كل جوانب الحياة وعلى اختلاف صورها وأشكالها، فتُحدِث فيها تغييرات كيفية وعميقة وشاملة، وهذا ما أطلق عليه حديثا “الرؤية السوسيولوجيه للتنمية”
والتي تقتضي الخروج بالتنمية من البُعد الاقتصادي الكمي إلى آفاق أوسع وأرحب تتصل بنوعية الحياة الكلية والتوازن النسبي بين “الكم والكيف”، أو ما يُعرف بثورة الآمال المجتمعية التنموية الكبيرة التي اجتاحت العالم منذ منتصف عقد الستينيات، وإخراج قضية التنمية من الدائرة الضيقة للبُعد الاقتصادي، وزيادة معدل الدخل الفردي والقومي، إلى ما يعرف بالتنمية الشاملة المتكاملة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وصحيا وعمرانيا، تجري في قنوات البناء الاجتماعي مجرى الدم في عروق الإنسان.
الأمر على هذا النحو مكَّن “التنمية الشاملة” أن ينبثق منها العديد من المفاهيم الفرعية الأخرى والتي تخدم هدف التنمية وتحقق مسعاها، منها مفهوم “التنمية الاجتماعية” Social Development، ومفهوم “تنمية المجتمع المحلي” Community Development، ومفهوم التنمية البشرية ” Human Development، مفهوم “التنمية المستدامة” Sustainable Development، وهو ما سيكون محل نقاش في مقالة قادمة إن شاء الله.
اقرأ أيضا:
الاقتصاد والوعي والحلول التي تساهم في بناءه