فن وأدب - مقالاتمقالات

الابتكار الأدبي

يعد الابتكار أساسًا من الأسس التي يرتكز عليها النص الأدبي، وإذا خلا منه نص فلا يعدو إلا أن يكون تقليدًا مقيتًا أو غثاء لا نفع فيه، لكن بعض النقاد حصروا المقصود بالابتكار الفني الذي عليه المفاضلة بين نص ونص، أو بين كاتب وآخر في الابتكار في الأسلوب والصياغة الفنية، الذي يؤاخذ به من يريد الاشتغال بالأدب أشد المؤاخذة ألا يكون مبتكرًا في أسلوبه، أو بعبارة أخرى أن يكون أسلوبه مرقعًا من أساليب أدباء آخرين يحتذيهم وينحو منحاهم، ويا ليته يبلغهم.

فالحكم على النص من حيث توافر ابتكاره أو تقليده يكون على أساس طبعه بالأسلوب الجديد، فعمل الكاتب يشبه عمل النحلة التي تمتص الرحيق وتتمثله لتخرجه عسلًا مصفى سائغًا شرابه، كذلك الأديب الذي يقع على الموضوع أو الفكرة فيتمثلهما ثم يعيد إبداعهما على أساس طبعه ورؤيته، فهذا من له قدم صدق في الأدب، ومن هنا يستحسن النص ويمكن الحكم عليه بالأصالة أو السرقة، وبهذا تظهر شخصية الكاتب من شخصيات الآخرين.

مِن خصائص الابتكار الأدبي

ورأوا أن الابتكار في الموضوع والفكرة غير ضروري، فالموضوعات الإنسانية مشاع بين الأمم والحضارات، والأفكار تتشابه وتتوارد الخواطر فيها، فقديمًا رددوا قول “الجاحظ” تعبيرًا عن هذا المعنى: “المعاني مطروحة في الطريق”، وعلى هذا فلا ضير في تناول موضوعات الأقدمين شريطة أن تفنى شخصية الأقدم وتذوب في شخصية الأحدث، ومن ذلك الأدب الروماني الذي ما قام إلا على استلهام الأدب الإغريقي، والآداب الأوروبية الحديثة ما قامت إلا على الآداب اللاتينية القديمة، ومثل ذلك في الأدب العربي، فلا ينكر أثر الأدب الجاهلي في آداب العصر الإسلامي وما تلاه من العصور، ومن هنا نشأ درس “الأدب المقارن” الذي يقوم على عقد الصلة بين الأعمال التي استلهم أصحابها أعمال الآخرين حال اختلاف اللغة بينهما، وما ذاك إلا رصد لحركة تنامي الأدب وتطوره، كذلك من هنا نشأت المعارضات الشعرية التي يستلهم فيها الشعراء قصائد الأقدمين موضوعًا ووزنًا وقافية، ولم ينكر عليهم أحد ما ابتكروه، بل لم يمنع ذلك تفضيلهم على من سبقهم في بعض أشعارهم.

على هذا فالابتكار لا يتوقف على الإتيان بفكرة جديدة أو موضوع لم يتحدث فيه أحد، وإنما يكفي الكاتب أن يلبس موضوعه حلة جديدة يصير بها موضوعًا آخر لا علاقة له بما تناوله غيره من قبل، وهذا الرأي يؤيده الواقع الأدبي، فما أكثر ما تناول الشعراء والكتاب معاني مكرورة، لكن يبقى لكلٍ فضله في طريقة التناول، واختيار المفردات المعبرة، والصورة الجميلة، وقديمًا قال “شسترتون”: “إنه ما من علامة أفصح في الدلالة على انعدام الابتكار عند بعض الشعراء، من نزوعهم إلى البحث عن الموضوعات الغريبة. إن أرفع مراتب الابتكار قد يتسنمها شاعر يتغنى في “الربيع” فغناؤه يقطر دائمًا جدة ونضارة، شأنه شأن الربيع ذاته، ذلك الجديد النضر دائمًا مهما تتعاقب عليه القرون والحقب!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكل أديب بصمته

577a11b5e9111 - الابتكار الأدبي

البحث عن الموضوعات الغريبة قد يكون مهربًا للكاتب من عيون النقدة والقراء بخاصة عند ضعافهم، وعلى هذا لا يكون تناول المعاني المطروقة عيبًا إذا توافر للنص مقدار من الابتكار يحقق ذاتية الكاتب، ويكفل له الفرادة الفنية التي تبعد كاتبه عن سابقيه، وفي الوقت ذاته يعد طرق المعاني المتداولة تحديًا من الكاتب، إذ يضع نفسه في مرمى سهام الموازنة بينه وبين الآخرين، والكاتب الحق من لا يخشى هذه المقارنات، إذ تكشف عن فنيته ومهارته وتقدمه على بقية الكتاب، واُستشهد أيضًا على هذه الفكرة بخلق البشر الذي يتشابه فيه كل واحد من حيث الخِلقة، لكن هذا لم يمنع أن يكون لكل واحد شخصيته التي تمِيْزه عن الآخرين، فالتشابه في الشكل لا يعني أبدًا التشابه في المضمون، فكل أديب له بصمته الأسلوبية التي يستدل بها على شخصيته، بل إن هذه البصمة تكفي دليلًا لنسبة العمل إلى صاحبه دون الحاجة إلى دلائل أخرى.

الابتكار الأدبي من منظور توفيق الحكيم

قد يأتي التعالق بين الكاتب ومن سبقوه دون أن يقصد الكاتب إلى ذلك، وبهذا يرى الكاتب الكبير “توفيق الحكيم”، إذ يقول: “وقد يعتقد الفنان أو الأديب اعتقادًا جازمًا أنه ينطق بلسانه هو دون أن يدري أو يفطن إلى أنه يردد لغة من سبقوه، ويدور في فلك عظيم من عباقرة الأدب والفن، وهو لا يشعر أو يريد، فتوارد الخواطر والأفكار خصيصة من خصائص العقول البشرية، ولم ينكر ذلك أحد على أحد، إنما العيب أن تقصد إلى أفكار الآخرين قصدًا وتأخذ عنهم كما يقال “وقع الحافر على الحافر” فهذا ما يعد سرقة”.

لكن يبقى لطرافة الموضوع وجدته أهميته القصوى في الابتكار الفني، ورأي النقاد في ماهية الابتكار يعد جزءًا من الابتكار وليس هو الابتكار كله، نعم هناك موضوعات تستهوي الكتاب وتعد معينًا يغرفون منه مادتهم الأولية، ويستلهمونه في أعمالهم الأدبية، وذلك مثل: التاريخ فهو الملهم الأول دائمًا لكتابنا، فكانت سير الخلفاء والملوك أو قصص الحب العذري ومآسيه وقصص ألف ليلة وليلة، وكذلك قصص الإغريق مادة غزيرة يغترف منها الكتاب كما يشاءون، لكن تبقى موضوعات تمس شغاف الحياة التي يعيشها الكاتب ولا يستطيع بما يمليه عليه ضميره الفني أن يدير لها ظهره، بل تجب عليه الاستجابة لها والتعبير عنها.

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

التخصص والإفقار الممنهج

هل النقد الأدبي معرفة؟

باريس في الأدب العربي الحديث

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عبدالله أديب القاوقجي

مدرس بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر

مقالات ذات صلة