ما هو الحسد وما هو علاجه؟ ولماذا يكره البعض الخير لنا؟
نتفاجأ من الحين للآخر بفتور تعاطي بعض المقرّبين مع أحداث مهمة ومؤثرة علينا ونتفاجأ أيضا عندما نجد في المجتمع من لا يحبون لنا الخير حتى دون أن يعرفونا؛
ربما لهذا السبب يلجأ الكثير لعدم مشاركة دوائرهم في الأخبار والأحداث السعيدة حيث نسمع في هذا الصدد الكثير من الأمثال من نوع “داري على شمعتك تقيد” كما نسمع الكثير من الأقاويل والحكايات حول الحسد والعين وما شابه،
لكن محيرة هي فكرة أن يحسد إنسان إنسانا آخر ويتمنى زوال النعمة عنه، ترى ما الذي يدعو إنسانا ل الحسد وما الفائدة التي قد تعود عليه من زوال النعمة عن آخر؟ وما الذي قد يمنع إنسانا من التعاطف ومشاركة الفرحة مع من يهتم لأمرهم ويألفهم بالفعل؟
الإجابة الجاهزة والمقبولة دائما هي أن هؤلاء الناس حقودون، سيئو الأخلاق، وبينما علينا أن نعترف أن هذا موجود، فعلينا أيضا أن نتساءل ما إذا كان هو السبب الأوحد.
شخصيا أرى ظاهرة ذات تأثير واضح في موضوعنا، إنها ظاهرة “يحدث للآخرين فقط”!، ولكن ما هو الحسد؟ وما هي هذه الظاهرة؟
ما هو الحسد؟
الحسد باختصار هو تمني زوال النعم من عند الشخص الآخر، مثل أن تحسد شخص على سيارة يمكلها، أو منزل يسكن فيه، أو حتى زوجه..
وحسب تعريف ويكيبيديا فإن الحسد هو “شعور عاطفي بتمني زوال قوة أو إنجاز أو ملك أو ميزة من شخص آخر والحصول عليها أو يكتفي الحاسد بالرغبة في زوالها من الآخرين”
ظاهرة “يحدث للآخرين فقط”!
قرأت هذه العبارة منذ زمن في إحدى مؤلفات واحد من الكتاب المفضلين لدي، ومنذ ذلك الحين وهي عالقة في ذهني. يقول د. أحمد خالد توفيق: “هذه قاعدة (يحدث للآخرين فقط)، لقد حان الوقت كي يتعلمها؛ فهي تثبت دومًا براعتها في بعث الطمأنينة في النفوس، كما أنها -حين يتضح خطؤها- تجعل تصديق ما حدث عسيرًا..
لهذا يبدأ الخط الدفاعي الثاني (هذا لا يحدث لي فعلًا)، بعد هذا يأتي الخط الدفاعي الثالث: الصدمة العصبية والنشاط الزائد للعصب الحائر vagus من ثم تفقد الوعي.. تفقده لفترة مريحة يمكن أن يحدث فيها أي شيء لك.”
ولمن لا يعرف سلسلة ما وراء الطبيعة للكاتب المخضرم فهي سلسلة تقدم سلسلة من الأساطير المرعبة بأسلوب فكاهي. ومع أن سياقنا هنا مختلف كليّة، فنَعم هناك رابط: لكن… أين؟
بمجرد أن يحدث الأمر الذي يكاد حدوثه يكون مستحيلا بالنسبة لك، تبدأ في المرور بالمراحل تلك –ليس من الضروري أن تفقد وعيك لحسن الحظ-،
وهذه الحالة ليست مرتبطة فقط بالكوارث والمصائب وإنما نجدها أيضًا في أغاني الحب ومناجاة الشكر للإله ممن أتتهم نعمة على غير ترتيب أو جهد منهم.
ما علاقة قاعدة “يحدث للآخرين فقط” بالحسد
عندما لا نتصور أن هذا النوع من السعادة ممكن الحدوث لنا؛ ولنفترض صفاء النية وكوننا نحب لغيرنا ما نحب لأنفسنا، فهل من اليسير أن تحب شيئا لشخص وأنت لا تراه ممكنا لك؟
كذلك فقد يستدعي التفكير في هذه المناسبة مشاعر نفور أو ألم أو اضطراب تجعله أمراً عادياً غير باعث على الفرحة الاستثنائية. أحيانا يحدث أمر نادر كان الإنسان يتمناه لنفسه لكنه حدث لغيره أمام عينيه، فيفكر من منطلق: كيف حدث للآخرين؟ لماذا لم أكن أنا “المحظوظ”، أو ربما يرى أنه أكثر استحقاقا.
إذا استسلمنا لهذا فإننا نفقد قدرتنا على الفرحة والاستمتاع بالحياة وتدخل علاقتنا بمن حولنا في طور من الغرابة. هكذا فإننا نرى أنّ 3 أشياء قد تفصل الإنسان شعوريا عن حدث ما وتضعه في خانة “يحدث للآخرين فقط”:
موقف من الأشخاص، موقف من الحدث نفسه (الثراء، الترقي القيادي.. إلخ) يجعله لا يعني خيرا بالضرورة، أو موقف من الحياة متولد من رؤيته للحياة نفسها.
هل عدم تعاطف الآخر معك دليل على الحسد؟
ولنكن واقعيين: يموت كثير من البشر في مجاهل الأرض بشكل يومي ويعيش آخرون في بؤس يفوق الخيال.. هل من المفترض أن نوقف حياتنا الطبيعية ونعيش 365 يوما من الحداد والمجهود الإغاثي؟
في المقابل تعيش شعوب أخرى في رخاء وينتقل البعض من رفاهية لرفاهية ومن نجاح لنجاح فهل هذا يعني أن ننسى هموم العالم ونشاركهم فرحتهم وانطلاقهم وحتى اهتماماتهم النخبوية؟
من المؤكد أنّ الإنسان لا يمكنه أن يوزع مقدارًا متساويًا من الاهتمام والتعاطف مع الجميع، وأنه سوف يمكنه التعاطف بشكل أكبر مع من تربطه بهم علاقات قوية أو تشابه سياقيّ ما -مثل التشابه في الثقافة والغايات- يجعله يشعر إنه من كان من الممكن أن يكون في مكان هذا “الآخر” فيفرح لفرحه ويتألم لألمه،
وكثيرا جدًا ما يلعب الإعلام على هذا الوتر. كذلك فإن سعادة الآخر أو همّه ليست هي المحدد الأول أو الأوحد لما تشعر به! لكل إنسان انتصاراته وانكساراته وذكرياته وآراؤه التي تصنع توجهه الشعوري تجاه حدثٍ ما، وتجاه الحياة نفسها.
من هذا العرض نستطيع أن نرى أن عدم التعاطف أو مشاركة الشعور بالقدر المتوقع لا يعني بالضرورة الحسد أو التعالي أو عدم الاكتراث، قد يعني اختلافا في الرؤية، قد يعني شعورا بالغيرية يجعل فهم مشاعر هذا الآخر أمرا عسيرا.
التعاطف مع الآخرين بين الإفراط والتفريط
والخطأ الاستنباطي هنا هو حصرٌ بلا دليل مفاده أن من يحبك أو يهمه أمرك سوف تغمره السعادة لسعادتك ويغمره الحزن لحزنك، بغض النظر عن الكيفية التي يرى بها الحياة وما يمر به هو.
والآن هل من سبيل لأن يسعد الإنسان ويشارك الناس سعادته دون خوف من إثارة الحسرة عند الغير؟
وكيف يمكن لنا -مع معرفتنا بأن اهتمامنا لن يصل لكل شيء وحدث بالقدر الذي يستحقه- أن نضمن أن ما تركناه تولاه غيرنا بالقدر اللائق من الاهتمام بحيث لا تكون سعادتنا أنانية، ولا نترك لتعاستنا بينما يعيش الآخرون حياة الدعة والرفاهية.
أسباب الحسد
الندرة والاستحواذ
هناك من ذهب إلى أنّ الندرة والاستحواذ هما سبب سوء الخلق والضغائن والسلوك العدائي. بمعنى أنه لو كان كل شيء متاحًا بلا حقّ استحواذ “مِلكية” وثمن غالٍ يجب أن يُبذل للحصول على ما يريده الإنسان وهو ما ليس في متناول الجميع؛
حينها ستختفي الضغائن وتعود روح الأخوة، فالشعور بالحرمان والتمييز ضد الإنسان هو ما يستثير بداخله مشاعر الغضب والكراهية من وجهة النظر هذه.
لا عجب إذن أن يكون الحل عندهم في تحقيق الوفرة بحيث يوجد ما يكفي للجميع من متطلبات الحياة، وتلاشي حدود الملكية بحيث يصبح كل شيء مَشاعا، وطبعا هذا يتطلب أن تتخلى عن شيء من “موروثاتك” من عادات وأخلاق، لا ضرر في شيء من “الدياثة” حتى تتحقق الغاية العظمى هنا، ألا ترى يا رفيق؟
الرفاهية
لكن في المجتمعات الأكثر رفاهية، هناك آخرون يتعاملون مع المصائب والكوارث التي تصيب من “ليس منهم” بدرجة من الانفصال الشعوري؛ إما لا مبالاة وإما اهتمام متعالي.
أخبار المنكوبين مثلا تنتقل للبعض في صورة تعاطف مؤقت سرعان ما تجرفه مشاغل الحياة بعيدا عن بؤرة الاهتمام، والبعض الآخر لا يعتبرها من شأنه.
بالطبع هناك حالات نادرة واستثنائية من التعاطف مع المحتاجين والتضحية من أجلهم، أخوّة لا “إنعامًا”، لكنها لا تمثل توجه مجتمع أو دولة.
اقرأ أيضاً:
هل الحل في إلغاء الدوافع الغريزية؟
في الحالتين (الوفرة والندرة)، قد يفشل إنسان أو مجتمع بأكمله في استحضار حالة الآخر، في الشعور برابط الإنسانية والإخوة بالقدر المناسب وبالتالي تقدير الانفعال المناسب، فيأتي رد فعله فاترا، فليس الخلل إذن ناتجا فقط عن الندرة، فقد بقيت الظاهرة موجودة في وجود الوفرة والرخاء، أما عن الاستحواذ فيقول المفكر الراحل مالك بن نبي:
“ومن الجليّ أننا لو ألغينا، على سبيل الافتراض، واحدًا من أشكال الدوافع الغريزية كالدافع الغذائي، أو الدافع التناسلي أو دافع التملّك؛ فإنّ جميع الإمكانات البيولوجية لحياةٍ اجتماعيةٍ ما سوف تُلغى دفعةً واحدة،
وإذا افترضنا أن فعلنا العكس فحرّرنا الدوافع الغريزية من كل قيد، فإن النظام الاجتماعي سيجد نفسه وقد أخلى موقعه لنظام طبيعيٍ خالص. والفرد سيعيش تبعًا لذلك في ظل (شريعة الغاب) التي تقصر الحياة على الأكثر قوةً لا الأفضل.
إذن عندما نلغي الدوافع الغريزية فإنّنا نهدم المجتمع، وعندما نحررها تحريرًا كاملاً فإنها تهدم المجتمع لذلك يجب على الدوافع الغريزية أن تعمل بالضرورة بين هذين الحدّين.”
التفاوت والاختلاف
المشكلة كذلك ليست في الاستحواذ ذاته، التفاوت الذي يوجد دوافع العمل والتطوّر يقتضي ألا يكون نصيب المجتهد مثل نصيب الخامل،
إذن ما يجب أن نلتفت إليه هو معيار الاختلاف والتفاوت، لأنه كلما كان هذا المعيار عادلا كلما كان الطريق أمام الإنسان لما يريد واضحا وممهدا، وكلما كانت محاولة القفز على المعايير مستهجنة وغير مبررة إلا بنقص العقل والخُلُق.
ليس الغنى مشكلة أو عيبا -أو ميزة- في ذاته، المعيار الصحيح للحكم هو “ممَّ يُكتسب؟ وفيم يُنفق؟” في النظام الاقتصادي الموجود، وعدالة هذا النظام ذاته.
فساد المعايير
أما عندما تفسد المعايير، عندما ينطلق الإنسان من مقدمة كلية تقول “إنّ الحياة غير عادلة”، فإنه يستسيغ تجاهل المعايير والالتفاف حول القوانين بدعوى فسادها.
لكن الحياة عادلة جدا؛ فالمفكر مالك بن نبي يقول أيضا “الحياة لا تخطئ في صياغة المشاكل لأنها تأتي بالنتائج وفقا للمسببات”.
فالاستقامة تقتضي تصحيح المعايير والتزامها، أما العمل من منطلق كون الانحراف عن الطرق المنحرفة عملا مشروعا فهو يرسّخ نسبية المعايير ولا يُنتج استقامة سلوكية ولا خُلقية.
الظلم والطبقية
والحسد والغلّ في كثير من الأحيان يتولد من الظلم والطبقية وعدم تكافؤ الفرص في المجتمع، فالظلم يفسد النفوس ويذهب روح الأخوة والمودة.
وإذا قمنا بمعاينة مجتمعات أخرى في الحاضر والماضي سنجد أن بعضها تمكن فعلا بفضل تطبيق العدالة الإجرائية وتكافؤ الفرص من إيجاد روح الأخوة والانتماء وتوجيه الطاقة للعمل والبناء،
وإلى هذه العدالة الإجرائية وأخلاق العمل يعود الفضل فيما نراه من حُسن في الخصائص العملية للمجتمعات، لا إلى حسن الفكر وجمال الخلق كله،
فالمجتمع يمكن أن يحترم النظام دون أن يمنع ذلك من توفير الملاذ الآمن لأصحاب رؤوس الأموال دون الاهتمام بمصدرها، وألا يكترث بسياسة دولته الخارجية إلا عندما يشعر بضرر مباشر.
الاجتزاء
أما من جهة الخلل في الرؤية يمكننا أن نرى منبعا آخر للحسد هو الاجتزاء: ألا يرى الإنسان فيمن ينظر إليه إلا الشيء الذي كان يتمنى أن يكون له، ويراه ميزة خالصة بلا عيوب. سواءً كان ما يتمناه خصلة فطرية كالجمال والموهبة، أو أمرا مكتسبا كالمكانة والمال. وهذا أمر يخالف الواقع ولا يعبر عن النضج الفكري.
الخبرات والتجارب
ومن جهة أخرى وهي جهة مخزون الخبرات والتجارب؛ فقد يرى إنسان أن الزواج مشروعٌ غالبًا ما يجلب البؤس والشقاء على من يدخله، وبينما هو يسعد لسعادة من يحبهم فإنه لا يحب لهم أن ينتهي بهم المطاف بنفس الطريقة.
أو يرى المنصب الهام يتسبب في ضغط على العائلة وانشغال صاحب المنصب عن أهل بيته وحدوث تضييق على حرية أفراد العائلة…
هذه النظرة تبدو وكأنها ما يقابل نظرة الحاسد إذ أنها تكاد لا ترى إلا السلبيات، بالتأكيد هناك زيجات ناجحة وهناك مسؤولون تمكنوا من الموازنة بين مزايا عملهم وعيوبه… لكن هذا يحدث للآخرين فقط! هذا الوضع وإن بدا للآخرين كالحسد فهو ليس كذلك.
علاج مشكلة الحسد
في كل الأحوال بدون العلم بالأسباب المساعدة على النجاح أو المانعة له يسهل أن يسيطر على النفس خوف وحيرة، شعور مبهم بالقلق وعدم الارتياح،
يجب علينا عدم الاستسلام له، وطلب العلم الذي تنقشع به ظلمة الجهل القاتمة فيذهب ضيق النفس، مع الاستعانة بالخالق المدبر الذي يحيط بما لن نحيط به.
إن الحل المتكامل للحد من وجود التحاسد والتباغض، الحل مضمون النجاح في حالة الندرة والفقر كما في حالة الرخاء، يكمن في العمل على سيادة العدالة في المجتمع؛ العدالة الفكرية، والأخلاقية، والإجرائية. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون.
**************
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط
ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب