مقالاتقضايا وجودية - مقالات

هل يقبل كبار علماء الإلحاد ذلكم التحدي؟! – الجزء الثاني

أخي صاحب الفكر الملحد .. أنت تتفق معي في أمر بديهي لا مراء فيه ألا وهو أن الطبيعة عمياء لا عقل لها، وإذا قلنا: إن هذه الطبيعة العمياء غير العاقلة -ومن ثم غير المدركة لما تصنع- هي التي أبدعت عبر حركتها العشوائية اللا متناهية كل هذا الجمال والنظام والتناسق في كل شيء في الكون من الذرة إلى المجرة، فماذا يكون العقل إذن إذا كان كل ذلك إبداع ما لا عقل له؟

وحتى تكتشف عما إذا كان ثمة حتمية لوجود عقل يقف وراء كل ما نراه من مخلوقات في هذا الكون العظيم أم هو وليد صدفة عمياء.. فلتطلب من شخص ما -يقبع في ظلام دامس يسد أذنيه ويعطل عقله عن التفكير بتاتا- أن ينقل لك كوبا مملوء عن آخرة بالماء من منضدة صغيرة في أول الغرفة إلى موضع معين في منضدة صغيرة تقبع في آخرها دون أن تفيض قطرة ماء واحدة من هذا الإناء.

ضرب من المستحيل

ألا ترى أن إمكانية تحقيق ذلك ضرب من المستحيل؟! ذلك لأن تحديد مكان المنضدة الأولى أو الثانية، بل وكل العمليات المنطقية المتعلقة بإمساك الكوب، وكل ما يتطلبه التحكم فيه من توازن ودقة في كل حركة تتطلبها عملية نقله بصورة تجعله لا يفيض منه شيئا، والتحديد السليم للوجهة التي يتحرك إليها، وما إلى ذلك من عمليات منطقية معقدة، هي أمور من المحال القيام بها دون استخدام ذلك الشخص لعقله.

بل إن كل ما يأتي من حاسة اللمس وما ينبني عليها من إدراك للكوب الذي يتم لمسه، وتحديد حجمه ووضعيته ومكانه وكيفية حمله، والسبيل المطلوب أن يسلكه لسلامة النقل إلى المكان المحدد على المنضدة الثانية التي تقبع في طرف ما من الغرفة، إن كل هذه العمليات هي عمليات عقلية محضة. فتوافر  حاسة اللمس هنا لا قيمة لها دون عقل يستخدم الإشارات التي ترسلها هذه الحاسة في تقرير موقع ووضعية الكوب، وفي تقرير الكيفية التي على هداها سينقل هذا الكوب، وغيرها من القرارات التي يتطلبها نقل هذا الكوب في ذلك  الظلام الحالك.

وهكذا، هل ترى أيها العقل الملحد أن مثل هذا الفعل الصغير يمكن أن يتم في عماء، أي عبر مصادفة محضة؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثم لتقل أيها الملحد لذلك الشخص: فلتغمض عينيك ولتستخدم فقط عقلك، وذلك في تنفيذ المهمة البسيطة التالية، ثمة مصدر ضوء في ذات الغرفة ينطلق منه شعاع مستقيم (يمكن للمبصر أن يراه بسهولة)، وهذا هو أنبوب معدني به ثقب بحجم ثقب الإبرة دقيق، عليك أن تجعل هذا الشعاع يمر من ذلكم الثقب، ولننظر هل يمكن أن يجدي عقلك في تحقيق هذا الأمر، حتى لو حاولت مئات السنين طالما تعمل في عماء؟

مهمة صناعة حشرة

ثم لتقل أيها الملحد لذلك الشخص: فلتستخدم هذه المرة عقلك وجميع حواسك وذلك لإصلاح عطب في جهاز إليكتروني لا تعلم عن سبل إصلاحه شيئا، هل تتوقع حينها أن يجدي عقل هذا الشخص وحواسه في أن يحقق من ذلك الإصلاح شيئا؟ وأنى له معرفة العطب الذي يضرب هذا الجهاز والذي يتطلب خبرات فنية فائقة ومعقدة ومتراكمة لم تتح له قط؟!

ثم لتقل أيها الملحد لشخص صاحب علم وفير وخبرات فنية غزيرة: فلستخدم أنت وصفوة البشر قاطبة من كل علماء الأرض عقولكم وحواسكم وتراكمات المعرفة والخبرات العلمية التي أنتجها البشر عبر آلاف السنين، واستخدموا كل ما تستطيعون من إمكانيات مادية وأجهزة علمية -وهذه مزايا وأمور يستحيل أن  تكون قد توافرت أو ستتوافر للقوى الطبيعية العمياء مهما طال بها الزمان ومهما اتسع لتخبطها العشوائي المكان- وسوف نمنحكم من الزمن لإنجاز المهمة الصغيرة التالية آلاف السنين،

هذه المهمة هي صناعة حشرة صغيرة كالنحلة أو النملة، شريطة ألا تكون تقليدا لها، وشريطة أن تكون لها حياة وإحساس وقدرة على التخطيط والتفاعل والتواصل والبناء، والبقاء عبر الدفاع عن ذاتها، ولها قدرة على النمو والتكاثر على نحو يمكنها خلال عدة أجيال من تكوين مستعمرات كاملة -كما هو حال النحل أو النمل- وشريطة ألا يحاكي هذا الشخص هو ومن معه من العلماء في صنعهم لهذه الحشرة أي حشرة من الحشرات التي تدعى أيها الملحد أن الطبيعة العمياء أنتجتها،

لأن هذه الطبيعة العمياء لم تحاكِ عندما صنعت ملايين الأنواع من الحشرات أحدا. وكيف تحاكي ولا عقل لها يدرك أوجه التشابه بين الكائنات الحية التي أوجدتها عبر خبطها العشوائي، حتى تنقل خاصية ما من كائن منها إلى كائن جديد تريد أن تصنعه عبر خبطها العشوائي أيضا؟

محال عقلا

وهنا دعنا نسألك أيها الملحد هذا السؤال: هل يحتمل إذا ما تآزرت عقول صفوة البشر أن يخلقوا لنا هذه الحشرة؟ ودعنا نرفع عنك عناء الإجابة ونجيب نحن عنك وإجابتنا هي: أن حدوث ذلك محال عقلا.

وهنا دعنا نسألك سؤالا آخر: إذا كان صفوة العقول البشرية مجتمعين غير قادرين على خلق مثل هذا الكائن الصغير أمرا محالا، مع توفير كل هذا الكم الجبار من المعرفة والخبرات لهم، ومع إتاحة المدى الزمني أمام هذه العقول إلى آلاف السنين.. فهل يمكن للطبيعة غير العاقلة أن تبدع ذلك الكم المهول من المخلوقات العاقلة والتي تعجز أكبر العقول أن تحاكي أدناها مهما طال بها الزمان ومهما اتسع لها المكان؟

وهنا لن نقدم لك إجابة على ذلك التساؤل لكون الإجابة بديهية، ولكن دعنا نتفق في النهاية على أن إصرارك على نفي وجود خالق حكيم وعليم بكل شيء في هذا الكون -ومنها هذه الحشرة الصغيرة التي هي محور المثل محل حديثنا هنا- واستبداله بقوى الطبيعة العمياء يضعنا أمام معادلة عبثية تقول:

“إن قوى  الطبيعة العمياء التي لا وعي لها ولا سمع ولا بصر خلقت -عبر الخبط العشوائي- عددا لا يحصى من كائنات حية ذات وعى وسمع وبصر، بينما لا يمكن  للجهد الواعي المنظم لآلاف العقول البشرية الجبارة مهما توافرت لها الإمكانات، ومهما تراكمت لديها المعارف العلمية ومهما أنفقت من آلاف السنين أن يخلق لنا من هذه الكائنات الحية حتى ولو حشرة صغيرة!!”.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

هل تجوز الرحمة على الملحد؟

هل نشأ العالم من قبيل الصدفة؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. محمود السماسيري

أستاذ الإعلام المشارك بجامعتي سوهاج بمصر حاليا، واليرموك بالأردن سابقا.