قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السادس والأربعون

المدرسة المشَّائية: (44) ابن رشد وكتبه: "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"

الفلسفة والتأويل (12): جدل الظاهر والمؤول: خلاصة تأويلية لهرمنيوطيقا ابن رشد

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 45) جدل الظاهر والمؤول (10): ثالثًا: قوانين التأويل وقواعده الرئيسة: [ح] التأويل والمجتمع: من التأويل غير البرهاني نشأت الفرق ففرقت الناس. [ط] الطرق القرآنية: أفضل الطرق لتعليم الناس. [ي] إعجاز الأقاويل الشرعية.

ولنختم –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: جدل الظاهر والمؤول.

[خلاصة تأويلية لفلسفة التأويل الرشدية: ابن رشد: نحو هرمنيوطيقا إسلامية عقلية جديدة، برهانية لا ظنية، متكاملة لا متكافرة، إنسانية حضارية عالمية، لا محلية ذاتية منغلقة]

أولًا: دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا

  1. انتهج الغزالي في مواجهة الفلاسفة نهجَ الفلاسفة أنفسِهم فحاربهم بسلاحهم، وعلى العكس انتهج ابن رشد نهجَ الفقهاء، في مواجهة تكفير الفلاسفة، فدافع عنهم فقهيًا بلغة الفقهاء وأصولهم!
  2. وقد رد على الغزالي في كثير من الأحيان من كتب الغزالي نفسه التي قررها الغزالي عند النظر وخالفها في التطبيق والعمل، (أخذ ابن رشد بقانون التأويل كما عند الغزالي وتقسيم الناس إلى مراتب إزاء التصديق ومنهج المنطق، وتحريم التأويل على العامة وعدم جواز التصريح بالتأويل لهم إلخ مطورًا ذلك كله ومضيفًا إليه ومستكملًا النقص فيه).
  3. ويجب علينا –نحن المعاصرين– عدم الانخراط في هذه المعارك التي فرضتها ظروفُ العصر الذي عاش فيه هؤلاء الأعلام، فلا نرث عداواتهم، ولا تكفير بعضهم لبعض، لا باسم الدين، ولا باسم الفلسفة، فقد مضى زمنُ التكفير وبدأ زمنُ التفكير، لأنهم كلهم كانوا أصدقاء للحكمة طالبين ليدها (ابن رشد يلخص كتاب الغزالي في علم أصول الفقه، ويردد كثيرًا من نظرياته بخصوص التأويل، ويدين للفارابي وابن سينا دينًا كبيرًا)، لنجمع إذًا بين الغزالي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، في سيمفونية واحدة، لنعزف لحنَ العقلِ الخالدِ الذي ينتظره منا عصرُنا الحاضر!

ثانيًا: جدل الظاهر والمؤول

  1. التأويلات: في “عرض” التأويل أم في “طوله”: محورٌ واحدٌ للحقيقة تتجمعُ فيه التأويلات المختلفة كلُها على مر العصور:

دعني –صديقي القارئ صديقتي القارئة– أضرب مثلًا: هل يمكن لسيارتين تسيران جنبًا إلى جنب أن تسيرا معًا في الوقت ذاته في شارع لا يتسع إلا لسيارة واحدة؟ بالطبع لا. وهل يمكن لعدد من السيارات أن تسير في شوارع مبنية بعضها فوق بعض أو في جراج مكون من طوابق متعددة؟ الإجابة نعم. كذلك التأويلات –كما نفهم من ابن رشد– يجب أن لا تكون في عرض التأويل، بل في طوله، أعني أن التأويلات الحقة لا تتعارض ولا تتناقض، ولا يكفر بعضُها بعضًا. وهذا يحدث فقط إذا كانت التأويلات ظنيةً غير برهانية، إذ ليست في عرض التأويل، بل تتكامل وتتعاضد وتتساند، إن هي كانت في طول التأويل، أي مؤسسة على اليقين لا على الظن، تتجمع في محور واحد طولي للحقيقة، فلا تتعارض التأويلات ولا تتناقض، وهذا المحور يزداد ويكبر –عبر الزمن– بفعل التراكم المعرفي المستمر الذي لا ينتهي.

  1. آفة الهرمنيوطيقا المعاصرة: نسبية الحقيقة: النسبية المطلقةً للحقيقة النسبية!

وهنا سوف يخلصنا ابن رشد (إن بنينا على ما بدأه) من إحدى آفات الهرمنيوطيقا المعاصرة أقصد: نسبية المعرفة نسبية مطلقة! أي غياب كل حقيقة مطلقًا! كأن النسبية في مقاربة الحقيقة تعني غيابَ كل حقيقة. إن كون التأويلات في طول التأويل يعني نسبيتها، وفي الوقت ذاته لا يعني أنها باطلة، أو غير حقيقية، أو غير واقعية، أو غير برهانية، بل يعني أن كل تأويل نسبي، من ناحية صدوره من صاحبه، وهو حقيقي من زاوية استناده إلى مبادئ البرهان المشتركة بين البشر جميعهم. إن الحقيقة المطلقة موجودة لكن مقاربتها هي النسبية.

  1. هرمنيوطيقا ابن رشد: نسبيةُ مقاربة الحقيقة، لا نسبية الحقيقة ذاتها!

وبعبارة موجزة: إن الحقيقةَ مطلقةٌ، لكن مقاربتها هي النسبية، ومن تجمع مجموع المقاربات والتأويلات، في طول التأويل، وعلى محور التأويل الرأسي، تحتفظ التأويلاتُ بقدرتها على مقاربة الحقيقة من ناحية، مع عدم الادعاء بامتلاكها امتلاكًا مطلقًا من ناحية أخرى. فليس الأمر –في تأويلية ابن رشد الإسلامية العقلية التي أقترحُها– كما هو الحال في تأويلية نيتشه والهرمنيوطيقا المعاصرة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

–   نيتشه: لا توجد حقائقٌ بل تأويلات!

وتلك نسبية سوفسطائية معاصرة.

لكن ابن رشد يقرر –ضد نيتشه ومعظم الهرمنيوطيقا المعاصرة–:

–   توجد حقائقُ مطلقةٌ، والتأويلاتُ مقارباتٌ غيرُ مطلقةٍ لها!

وهذه يقينية أرسطية رشدية تصلح أن تكون معاصرة.

وبسلاحٍ: أرسطيٍ، رشديٍ، هرمنيوطيقي، معاصرٍ، يمكننا مقابلةَ السوفسطائية الهرمنيوطيقة المعاصرة.

اقرأ أيضاً:

الجزء الثالث والأربعون من المقال

الجزء الرابع والأربعون من المقال

الجزء الخامس والأربعون من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج