فن وأدب - مقالاتمقالات

اغتيال النص _ نقد نظرية “موت المؤلف”.. لرولان بارت

قراءة هيرمنيوطيقية

ترجع نظرية “موت المؤلف” للمفكر الفرنسي رولان بارت، والتي عرضها في مقال له بعنوان “موت المؤلف”، تلك النظرية التي لاقت رواجًا كبيرًا في النقد الأدبي المعاصر، وكانت لها ردود أفعال متباينة، فهناك من رفضها مثل المدرسة الرومانسية والواقعية، وهناك من أيدها مثل المدرسة السريالية والبنيوية وما بعد البنيوية.

ماذا تعني نظرية موت المؤلف؟

تعني نظرية “موت المؤلف” تحرير النص بمختلف أشكاله وأنواعه من مؤلفه، وترك القارئ لكي يقرأه بمعزل عن مؤلفه، وبمعزل عن المعاني والدلالات التي أراد المؤلف أن يوصلها من خلال الكلمات والجمل المكونة للنص الذي كتبه، ليحل بدلًا منها تلك المعاني والدلالات التي يستخرجها القارئ بنفسه من النص، أيضًا تُسقط نظرية “موت المؤلف” كافة السياقات التي جاء في ضوئها النص، هذا فضلًا عن العوامل المؤثرة في كاتب النص عند كتابته له، إلخ.

تحليل نظرية موت المؤلف

للوقوف على طبيعة فعل القراءة وماهيته يمكن بلورته افتراضيًا في بعدين، وكل بعد منهما له شكلان.

أبعاد القراءة

يمر فعل القراءة وممارستها لدى القارئ عند قراءته للنص بتجربة وجدانية ذات بعدين، كل بعد منهما يمكن أن يظهر في شكلين، وذلك خلال استخراج المعاني والدلالات من النص في الوقت ذاته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

البعد الأول للقراءة: البعد الخاص بالمؤلف

البعد الأول، يمكن أن نطلق عليه البعد الخارجي، وهو البعد الخاص بالمؤلف، فيه يُقرأ النص وفقًا لتجربة المؤلف الداخلية، وذلك في ضوء كل التراكم المعرفي والثقافي من ناحية، والعوامل المؤثرة فيه من ناحية ثانية، والسياقات الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية، إلخ، السائدة في عصره من ناحية ثالثة.

يظهر شكلان في البعد الأول لقراءة القارئ، يحدث في الشكل الأول أن يقرأ النص قراءة حرفية، وذلك عند الاقتصار على الوقوف على المعنى الظاهري من النص، أي تفسيره تفسيرًا حرفيًا، وإرجاع ذلك المعنى إلى المؤلف، أي هذا المعنى هو المعنى الذي قصده وأراده المؤلف من نصه، أما الشكل الثاني يحدث فيه أن يقرأ النص قراءة داخلية مجازية، وذلك عند تفسير النص تفسيرًا مجازيًا، وهو التفسير والمعنى الباطني غير الظاهري من النص، الذي يُطلق عليه القراءة والتفسير التأويلي الهيرمنيوطيقي.

البعد الثاني للقراءة: البعد الخاص بالقارئ

أما البعد الثاني يمكن أن نطلق عليه البعد الداخلي أو البعد الوجودي، وهو الخاص بالقارئ، فيه يُقرأ النص وفقًا لتجربة القارئ الداخلية بمعزل عن تجربة المؤلف، وذلك في ضوء التراكم المعرفي والثقافي للقارئ من ناحية، والعوامل المؤثرة فيه من ناحية ثانية، والسياقات الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية، إلخ، السائدة في عصره من ناحية ثالثة.

يظهر البعد الثاني للقراءة في شكلين، يحدث في الشكل الأول أن يقرأ النص قراءة حرفية، وذلك عند الاقتصار على الوقوف على المعنى الظاهري من النص أي تفسيره تفسيرًا حرفيًا، دون إرجاع ذلك المعنى إلى المؤلف، بل أن يكون المعنى نابعًا من القارئ ذاته، أي هذا المعنى الظاهري هو المعنى الذي توصل إليه القارئ من خلال الوقوف على معاني الكلمات والألفاظ بمعناها الظاهري القريب.

أما الشكل الثاني يحدث فيه أن يقرأ القارئ النص قراءة داخلية مجازية، وذلك عند تفسير النص تفسيرًا مجازيًا، وهو التفسير والمعنى الباطني غير الظاهري من النص، الذي يطلق عليه القراءة والتفسير التأويلي الهيرمنيوطيقي، أي أن يقوم القارئ بكشف النقاب عن المعاني الباطنية والوقوف على الدلالات الرمزية التي تقف خلف النص، أي خلف الكلمات والألفاظ المكونة له.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً: حالة من فكر ثقيل وعلم خفيف

النص مرآة لتجربة المؤلف

16024142231550541501 400 - اغتيال النص _ نقد نظرية "موت المؤلف".. لرولان بارت

إن الكتابة في حد ذاتها تجربة ذاتية، بل هي حالة وجودية يعيشها الكاتب تتجلى في النص الذي يؤلفه، إذ يعبر فيه عن آرائه وأفكاره، بل يُخرج ما يؤمن به وما يعتقده من أفكار في النص الذي يكتبه، بالتالي، يُعد النص أداة يستخدمها الكاتب لينقل ما يدور في عقله وما يؤمن به قلبه إلى القارئ، أي أن النص مجرد وسيلة لنقل الأفكار وما تحمله من معانٍ ودلالات إلى القارئ.

بالتالي فالنص مرآة نرى فيها تجربة المؤلف التي كان يعيشها، والكلمات والألفاظ مجرد وسيلة لنقل المعاني والدلالات التي تعبر عن تلك التجربة، وما دامت تلك التجربة كُتبت في نص مكتوب أو مسموع فهي بالضرورة موجهة إلى القارئ، وليس بالضرورة أن يكون القارئ موجودًا في البلد الذي يقطن فيه الكاتب أو في العصر الذي يعيش فيه، حتى لو كان النص موجهًا إلى فئة بعينها أو إلى شعب بعينه، فبمجرد الكتابة أصبح النص كالطير الطليق الحر يحلق في أي مكان، وخاصة في ظل الثورة التكنولوجية والإنترنت، فيمكن لأي قارئ في أي مكان في العالم قراءة النص.

القراءة تجربة مزدوجة بين المؤلف والقارئ

ننتهي من كل هذا إلى أن القراءة تجربة مزدوجة، إذ تنكشف مدلولات المؤلف وما يريد توصيله من أفكار إلى القارئ، ليقوم القارئ بدوره بتلقي تلك الدلالات والأفكار من المؤلف عبر النص من ناحية، وما تحمله من دلالات ومعانٍ وفقًا لتجربة القارئ، وما يؤثر فيه، وما يعيش في ظله من سياقات متعددة، فتنتج في هذه القراءة تجربة جدلية متداخلة بين القارئ والمؤلف، يستقي القارئ من النص الأفكار المتضمنة فيه ليفهمها بطريقته الخاصة وبمنهجه الخاص، سواء كان فهمه له ظاهريًا أو مجازيًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يمكن أن نطلق على تلك العلاقة الجدلية بين القارئ والمؤلف علاقة “فهم الفهم”، بمعنى أن القارئ يفهم النص وفقًا لتجربته الذاتية، والكاتب كان قد كتب نصه بعد أن أخرج أفكاره على هيئة كلمات تحمل معانٍ ودلالات متنوعة، وهي بدورها عملية فهم تحدث داخل العقل قبل الكتابة لتعبر الكتابة عن تلك العملية، وبالتالي فالعلاقة بين القارئ والكاتب هي علاقة فهم للفهم، وهي علاقة ترفض عند ممارستها نظرية “موت المؤلف”.

اقرأ أيضاً: لماذا نكتب؟

نقد نظرية موت المؤلف

5be980dd073341828075118 - اغتيال النص _ نقد نظرية "موت المؤلف".. لرولان بارتإضافة إلى أن نظرية “موت المؤلف” يمكن أن تسبب ما يمكن أن نطلق عليه اسم “اغتيال النص”، فالنص وحدة عضوية، لأنه يتكون من عدة أجزاء، ولا يكتمل النص إلا بوجود جميع الأجزاء المكونة له، ليس هذا فحسب لكن أيضًا لا بد أن تجتمع تلك الأجزاء بالشكل الذي وضعه كاتب النص، ولا مجال للتبديل في تلك الأجزاء بالتقديم أو بالتأخير أو بالحذف أو بالإضافة، لأن حدوث مثل هذه الأشياء من شأنها أن تخرج مدلول النص عن معناه الذي هدف إليه كاتبه، إلى معانٍ أخرى قد تصل إلى نقيض ما كان يهدف إليه، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج تدميرية في المعنى، سواء كان هذا النص بمفرده أو كونه أحد أجزاء مجموعة من النصوص.

نزع هوية المؤلف عن النص

المحافظة على النص من ناحية الشكل أمر ضروري، ويجب أن لا يشوه بالحذف أو الإضافة بأي شكل، ومهما كانت المكانة العلمية للشخص الذي سيقوم بالتغيير، فالمحافظة على شكل النص الذي وضعه كاتبه على هيئته له قدسية وجب المحافظة عليها، خاصة إذا كان كاتب النص توفاه الله فلن يتسنى له الرد على ما قد يحدث لنصه من تشويه سواء عن قصد أو دون قصد.

تشويه النص وتغيير صورته الأصلية

ينطبق الأمر بالمثل على كاتب النص حتى إن كان على قيد الحياة، وذلك لأن كاتب النص ربما لم يعلم ما تغيّر في النص، وحتى إذا علم وردَّ وأوضح أوجه التعدي والتشوية على نصه، فكثيرًا ما قد يحدث من عدم وصول هذا الرد لكل قراء النص الذين قرأوا النص بصورته المشوهة، أو لم يتمكن كاتب النص –خاصة في ظل الثورة المعلوماتية– من حذف هذا النص أو سحبه من المحيط التكنولوجي، وكذلك من الجائز أن ينتشر النص في صورته المشوهة أسرع من النص الأصلي، وبمرور الوقت ستنتشر نسخ مشوهة من النص وهو ما سيؤدي إلى تناقضات فجة عند معالجته.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إنكار خصوصية العمل الأدبي

من الممكن أن لا يقتصر تشوية النص من حيث الشكل (الحذف والإضافة والتبديل والتجزء) فقط، بل ينطبق الأمر كذلك على النص من حيث المضمون، بالتطرف في تأويل النص وتحميله لمعانٍ ودلالات تختلف بل وتتناقض مع المعنى الذي رغب فيه كاتب النص، وهو ما يحدث عند إسقاط السياق السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي والديني والأخلاقي الذي كتب فيه ومن أجله النص، هذا فضلًا عن إغفال التطور الفكري لكاتب النص، لأن كل مؤلف كثير ما تتغير أفكاره وتتطور آراؤه وفقًا لزيادة تراكمه المعرفي والسياقات التي يعيش في كنفها.

بالتالي، وفي سياق ما سبق، يمكن القول أن نظرية “موت المؤلف” لرولان بارت أحد أهم الأسلحة التي يمكن أن يُغتال النص بواسطتها.

مقالات ذات صلة:

يجب أن تسأل عقلك: ماذا يريد أن يقول المؤلف؟

مشكلات القراءة

نحو لغة أكاديمية مفهومة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. غلاب عليو حمادة الأبنودي

مدرس اللاهوت والفلسفة في العصور الوسطى ، قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة سوهاج

مقالات ذات صلة