مقالات

حالة من فكر ثقيل وعلم خفيف

يبدأ العلم بالتفكير، لكنه قد يفارقه إلى ما هو أبعد، محاولًا أن يضبط الفكر، وينقله من حالات التخيل والتمثل والانطباع والتصور والافتراض إلى حالة البرهان والتثبت أو ما هو أقرب إليهما في العلوم الإنسانية على وجه التحديد.

عبر استخدام عديد من الأدوات والاقترابات والمناهج العلمية، سواء ما تعتمد على التحليل الكيفي أو الكمي، أو تزاوج بينهما، لتحقيق الوظائف الرئيسة للبحث العلمي؛ جمع المتفرق، وتجلية الغامض، وتفسير المختصر، واختصار المسهب، ونقد السائد، وإبداع الجديد.

كثير مما تطرحه الجماعة البحثية العربية في مختلف العلوم الإنسانية أقرب إلى الفكر منه إلى العلم. وهي مسألة مألوفة في أغلب الندوات والمؤتمرات وورش العمل وحلقات النقاش، وظاهرة عيانًا بيانًا على صفحات الدوريات المتخصصة في الإنسانيات.

الباحثون العرب إبداع أو ضياع

الباحثون العرب يتنادون إلى حضور ملتقيات ومنتديات علمية يقضونها في إنتاج خطابات لغوية متنوعة، وطرح أفكار مختلفة المشارب والاتجاهات، ويدعون إلى الكتابة في الدوريات والصحف، فلا يفارقون هذه الطريقة كثيرًا، متخففين من أعباء وشروط يفرضها العلم على أصحابه، ولا يستقيم دونها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مثل هذا الوضع يؤدي إلى عدة نتائج سلبية تلقي بظلال كثيفة على مسيرة العلم والفكر معًا في بلادنا، لأنها تجعلنا نسير في المحل أو نتقدم ببطء على الأكثر في مسيرتنا العلمية والفكرية، الأمر الذي يقلل من قيمة وقامة إنتاجنا المعرفي.

كذلك إن هذه الآفة تضيع علينا فرصة اختبار المقولات التي نتداولها بعد التحقق من معلوماتنا ومن ثم استبعاد ما يثبت خطؤه، وتثبيت ما ينجلي برهان على صوابه، بما يدفع المعرفة بمناهجها ونظرياتها إلى الأمام.

بل إن هذا العيب يتسبب في إبعاد العلم والفكر عن خدمة الواقع المعيش، لأنها تقتصر في الغالب الأعم على المسائل النظرية، ولا تنتقل منها إلى الإجرائي والتطبيقي، الذي يشتبك مع المشكلات الحياتية ويسعى إلى إيجاد حلول لها.

كيف تكون الكتابة العلمية؟

عناصر الكتابة العلميّة 1024x721 - حالة من فكر ثقيل وعلم خفيفعلينا أن نعي في هذا المقام أن المنتج أو الكتابة العلمية ليست بالضرورة هي تلك التي يشبعها صاحبها ببعض أمور شكلية توهم من يطلع عليها أنها محكمة ودقيقة من الناحية العلمية،

فكثير من الأبحاث تستعين ببيانات وأشكال توضيحية من رسوم بيانية وجداول وخرائط وصور ومعادلات رياضية لكنها تفتقد إلى العلمية، لأنها تنطلق من انحيازات مسبقة وتقع في فخ الأيديولوجيات السائدة، وأحيانا تنطوي على نوع من التلفيق والكذب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هناك كتابات تخلو من هذه الأشكال والأرقام التي تنصرف إلى العلم فور رؤيتها، ومع هذا فإنها تسلك طريقًا علمية لا تحيد عنها، عبر استعمال منهج دقيق في إثبات الافتراضات، والإجابة على التساؤلات، وتقليص مساحة الشك إلى أدنى قدر ممكن، وتعزيز الحجة إلى أقصى درجة ممكنة، والانتصار للحقيقة والحق ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.

من هنا فإن العبرة تكون بالمخبر وليس بالمنظر، وبالتدقيق وليس بالتلفيق، وبتوفيقنا في أن نعثر على الأداة البحثية الناجعة، أو الأكثر كفاءة، في دراسة الظواهر التي نتصدى لها، ثم نحسن استعمالها في جمع المعلومات والبيانات،

وتبويبها وتصنيفها، ثم استدعائها تباعًا لخدمة مسار البرهنة، وبعدها عرض النتائج التي انتهينا إليها، كما هي، ومن دون افتئات أو تدخل بالتأويل أو الوصف والتحليل.

أسس التفكير العلمي

في كل الأحوال لا بد من توافر أسس وسمات التفكير العلمي في أي شفاهي أو كتابي حتى يمكن أن يطلق عليه لفظ علم، وهي:

  • التراكمية التي يتطور بها العلم ويعلو صرحه.
  • التنظيم الذي لا يترك الأفكار تتبعثر كيفما شاء لها، إنما يرتبها بطريقة محددة ومخططة.
  • البحث عن الأسباب الذي يستند إلى فهم الظواهر وتعليلها.
  • الشمولية التي تبتعد عن الفردي وتعالج الظاهرة من شتى جوانبها.
  • اليقين الموضوعي الذي يعتمد على البراهين والأدلة المنطقية، وليس اليقين الذاتي الذي يتكئ على مجرد شعور الباحث وإحساسه.
  • التجريد الذي يباعد بين الظاهرة وما هو شخصي ومتوهم.
  • الدقة التي تعتمد على أساليب قياس منضبطة بغية الحصول على نتائج صائبة، أو أقرب إلى الصواب.

اقرأ أيضاً:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كيفية كتابة البحث العلمي

أصناف أهل الكتابة

سباعية من نفايات الفكر

شروط الكتابة العلمية

ويضاف إلى هذا شروط إجرائية وتفصيلية أخرى، منها اختيار العبارات الدالة على المعنى المراد، والوصول إليه من أقرب الطرق وأقصرها، من دون إسهاب ممل ولا إيجاز مخل، بما يضمن إحكام المقولات الأساسية وتفصيلها على أجلى وجه ممكن.

ثم توافر إمكانية تحويل هذه المقولات النظرية إلى إجراءات يمكن إسقاطها على الواقع المعيش وإطلاقها لتمهد لعملية التفاعل معه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من الضروري حشد المعلومات والاستشهادات التي تساعد في إيجاد البرهان وتمتينه، وهي مسألة تقل كلما اتجهنا صوب المسائل التجريدية النازعة إلى التفلسف.

يجب أن يذهب المتن مباشرة إلى خدمة الهدف من البحث، بالتعامل المنضبط مع الافتراضات أو الأسئلة أو الإشكاليات التي تم طرحها في مستهل الدراسة.

بالطبع فإن ما سبق ينطبق بدرجة أساسية على الدراسات والأبحاث، القصيرة والمطولة، ويجب أن تؤخذ في الحسبان أثناء إعداد أشكال أخرى من الكتابة؛ من قبيل “تقدير الموقف” و”الأوراق الخلفية للنقاش” والتقارير والتحليلات والمقالات، حتى ولو بغير ذكر أو إظهار لهذه الخطوات، إنما ببناء المعاني على أساسها، ومراعاة إقامة السطور وفق ما تقتضيه.

امتزاج العلم بالفكر

research paper 660x330 1 - حالة من فكر ثقيل وعلم خفيف

لكن ما سبق لا يعني وجود حدود فاصلة بين الفكر والعلم، فالأول يسبق الثاني، ثم يتحول إلى إطار نظري له حين نشرع في بناء الخطوات العملية للبرهنة على شيء ما، أو يسهم في صناعة النموذج الإرشادي الذي ننظر إلى المسائل المطروحة من خلاله.

كثير من الأفكار الكلية تولدت نتيجة لتفاعل الفكرة الجزئية مع أختها بوعي الإنسان وإرادته أو حتى في اللا شعور، أو بفعل الحدس والإشراقات والفيوضات النورانية التي تحل فجأة في عقل الإنسان، وتهديه إلى ما لم يخطر بباله يومًا.

ثم يشرع الباحثون والدارسون في محاولة إثبات ما ولدته الأفكار المتفاعلة أو فاض به الحدس، ليبدأ العلم يأخذ مجراه، فيحضر ما هو غائب، وينجلي ما هو غامض، ويتعزز ما هو مجرد خاطرة أو إلماعة، قد تخفت وتتلاشي إن لم ترسخها التجربة.

يزداد امتزاج العلم بالفكر في بعض أنواع الإنتاج المعرفي، ومنها دوائر المعارف والموسوعات المتخصصة، حيث نكون أمام نوع مختلف من البحث، وشكل مغاير من الكتابة.

استخدامات المنهج العلمي في الكتابة

تزداد درجة حضور العلم حسب الحقل المعرفي الذي تغطيه الموسوعة أو الفكرة المركزية التي تنطلق منها. ففي الموسوعات المرتبطة بفرع علمي ما مثل “الموسوعة الفلسفية” أو “موسوعة علم النفس”، ينصب الاهتمام على جمع المتناثر من المصطلحات والتراكيب والمفاهيم والشخصيات والمدارس العاملة في هذا الحقل.

من ثم لا تكون هناك حاجة ماسة إلى طرح الأسئلة ووضع الافتراضات، لكن يبقي استخدام المنهج العلمي ضروريا في بناء الجزئيات، لا سيما العودة إلى المصادر الرئيسة، والتحقق من المعلومات، والتسلسل في عرضها حسب الأهمية أو التاريخ وغيرهما.

أما الموسوعات التي تعتمد على موضوع معين مثل “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية” لعبد الوهاب المسيري، و”موسوعة الحركات الإسلامية في العالم العربي وإيران وتركيا” لأحمد الموصلي، فيمكنها أن تجمع بين الطريقين.

تحتوي على مقدمات منهجية ونظرية تبدو كأنها إطار لأطروحة علمية، ثم تنتقل إلى الجزئيات والتعريفات والشخصيات ليصبح المنهج مضمرًا في السطور، غير ظاهر، على النحو الذي كان عليه في المقدمات.

إن كل هذا الاستعراض لألوان وأشكال الفعاليات والدراسات العلمية يثبت ما قلته في البداية، أن ندواتنا ومؤتمراتنا ليست سوى “ظاهرة صوتية” سيدتها الحنجرة وليس العقل، الأمر الذي يجعل فوائدها ضئيلة رغم النفقات الطائلة التي تدفع من أجل انعقادها.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

 

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة