نظرية النظم عند الجرجاني وعلاقتها بعملية الإبداع .. من الذي حذف “هي”؟
شرح “عبد القاهر الجرجاني” نظرية النظم في كتابه “دلائل الإعجاز” وعرضها عرضًا واسعًا، ففي مقدمته يُعرِّف النظم بأنه: تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض.
وطبق الجرجاني قواعد النظم على النصوص، فتناول دور علم المعنى في خدمة النظرية، ومن ذلك:
باب الحذف: باب دقيق المسالك، عجيب الأمر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، ومن لطيف الحذف قول ابن النطاح:
العين تبدي الحب والبغضا وتظهر الإبرام والنقضا
درّة ما أنصفتني في الهوى ولا رحمت الجسد المنضى
غضبى ولا والله يا أهلها لا أطعم البارد أو ترضى
يقول هذه الأبيات في جارية كان يحبها، والمقصود قول “غضبى”، والتقدير “هي غضبى” أو “غضبى هي” لا محالة، إلا أنك ترى النفس كيف تتفادى إظهار هذا المحذوف، وكيف تأنس إلى إضماره، وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمت التكلم به، في هذا المثال يشرح الجرجاني كيف أن حذف “هي” من عبارة “هي غضبى” أدى إلى “الملاحة”، أي الجمال البلاغي.
السؤال هنا.. هل الشاعر عندما ألف هذا البيت فكر بنفس طريقة تفكير الجرجاني وقرر متعمدًا حذف “هي”؟! أم أنه كتب ذلك الشعر تلقائيًا مستجيبًا لإلهامه الإبداعي الداخلي؟
أو بمعنى آخر هل الشاعر قرر بعقله النظري حذف “هي”؟ أم أن نشاطه العقلي الإبداعي هو الذي حذفها؟ بالتأكيد الشاعر لم يفكر بطريقة الجرجاني!
وإن الشاعر صاغ البيت تلقائيًا، ثم أتى بعد ذلك “الناقد” الجرجاني ففكر بعقله النظري واستنتج أن حذف “هي” يسبب “الملاحة”.
والسؤال التالي.. هل القارئ يحس بجمال البيت من فهمه لفكرة الجرجاني ولدور حذف “هي” في “ملاحة” البيت؟ أم أن القارئ أيضًا يتذوق جمال البيت تلقائيًا؟ أي لا يتذوقه بعقله النظري بل بملكة التذوق الإبداعي عنده؟ بالتأكيد القارئ لا يفكر كالجرجاني ولا يتذوق “الملاحة” بعقله النظري!
السؤال الثالث.. هل تحليل الجرجاني لسبب “ملاحة” البيت جامع مانع؟ أم أنه ملاحظة سليمة لكنها لا تفسر كل أسرار جمال البيت أو جمال كل القصيدة؟ أعتقد أن أسرار جمال القصيدة معقدة ومركبة، تستعصي على العقل النظري “للناقد” الجرجاني وغيره من النقاد حتى الآن.
والسؤال الرابع.. كيف أمكن للنشاط العقلي الإبداعي للشاعر صياغة ذلك التعبير “المليح” بحذف “هي”؟ وكيف أمكن لملكة التذوق الإبداعي عند القارئ تذوق “ملاحة” ذلك التعبير؟
هل ذلك النشاط الإبداعي يعلم أسرار الجمال؟ لعل النشاط الإبداعي يصل إلى تلك النتيجة بتكوين ملايين التوليفات اللفظية بسرعة العقل الفائقة حتى يصل إلى التوليفة المرضية جماليًا للذات، فتخرج هذه التوليفة للعقل النظري فيسجلها ويراجعها.
المراجعة تكون بالعقل النظري بالنسبة إلى أدوات الإبداع، كاللغة والعروض، وبالنشاط الإبداعي نفسه عبر تذوق الشاعر لشعره كقارئ، ولعل تذوق القارئ لجمال الشعر يكون عن طريق المعايير الجمالية لذاته.
والسؤال الخامس.. هل يمكن للشاعر دراسة ملاحظات الجرجاني حول أسرار “الملاحة” ومن ثم يكتب قصائد “مليحة”؟ أو بمعنى آخر يستخدم عقله النظري لصياغة شعره طبقًا لقواعد الجرجاني؟ أعتقد أن مثل هذا الشعر لن يكون جميلًا!
لأن قواعد الجرجاني لا تحيط بكل أسرار الجمال، فتَدَخُّل العقل النظري أكثر من اللازم في أثناء عملية الإبداع قد يفسدها، وجهود النقد منذ الجرجاني وحتى الآن شرقًا وغربًا تحاول تفسير الجمال الإبداعي، وقد تصل إلى بعض الملاحظات السليمة لكنها لا تحيط بكل أسرار الجمال الإبداعي، والمشكلة أن قواعد الجمال الإبداعي تتطور مع تطور البيئة الإنسانية.
فالجيل الحالي مثلًا قد لا يطرب لأغاني أم كلثوم، وهذا لا يعني إيقاف جهود العقل النظري للنقاد لمحاولة فهم الجمال الإبداعي، فالعقل النظري بطبيعته يريد أن يفهم كل شيء، لكن العقل النظري هو نفسه يعرف أن له حدودًا.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا