علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

العقل المتسامح .. خصائص وتجارب _ الجزء الأول

للوهلة الأولى، يمكن النظر إلى مسألة التسامح على أنها تخص القلب، وهو محلها وموطنها، قبل العقل، أو بمعنى أدق تبدو موصولة بالمشاعر قبل أن تكون بنت الأفكار، وتدل على ذلك كثير من الإسهامات المعرفية التي تتناولها وحديث الناس الشفاهي عنها، فتجعل من المتسامح رجلًا “طيب القلب” أو “نقي السريرة” و”واسع الصدر” قبل أن يكون متفتح العقل، وواعيًا بالمصلحة العامة أو الخير المشترك، ومدركًا أيضًا لمصلحته الذاتية البحتة.

العقل المتسامح في المجتمعات الإنسانية

من دون شك فإن حضور المشاعر في هذا المجال أمر حسن، لأنها تمثل طاقة إيجابية تعطي التصرف المتسامح عمقًا إنسانيًا مهمًا، طالما يمنحه الوجدان لأي فعل بشري، لكن الاقتصار عليها يبدو عملًا محفوفًا بالمخاطر، فالمشاعر قد تتقلب بين عشية وضحاها، فتقفز سريعًا بين خمود وإثارة وسخط ورضاء ومودة وكراهية وإقبال وإدبار، وهذه حالة يمكن أن تمتد من الفرد إلى الجماعة، أو من الواحد إلى الجميع.

من هنا فإن اقتناع العقل بمسألة التسامح وإدراكه أهميتها أكثر رسوخًا واستقرارًا. وقد يكون من اقتنعوا قادتهم المصلحة الذاتية أو العامة، بحيث فهموا أن المتسامح يكف عن نفسه عناء الشعور النفسي بالمقت أو الكراهية، ثم يجني ثمار الإحساس بالمودة حيال الآخرين، على أساس أن الصحة النفسية تاج أيضًا على رؤوس الأصحاء، شأنها شأن الصحة البدنية.

لكن الأمر يتعدى محض هذا الحصاد الفردي، ويمتد إلى فهم المتسامح أن عيشه في مجتمع يتمتع بهذه القيمة الإنسانية العظيمة يقلل الشرور التي تصنعها إحن وأحقاد ناجمة عن الصراعات التي تندلع على خلفيات عقائدية ومذهبية وعرقية وطبقية وغيرها، التي لا تلبث أن تنتشر وتتوغل حتى يتطاير شررها إليه، فيجد نفسه، ولو بعد حين، في مواجهتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: كيف يولد أو يوجد العقل المتسامح؟

كيف يولد العقل المتسامح؟

900500 4ee82681 deca 4a28 8ce4 23e022c27048 - العقل المتسامح .. خصائص وتجارب _ الجزء الأول

 في الأسرة

لا يمكن هنا أن نستبعد أو نقلل من الدور الذي تلعبه التربية الأولية في الأسرة ثم المدرسة في تعليم الفرد كيف يتقبل الرأي الآخر، بعد أن يتفهمه ويدرك معانيه ومراميه، ويؤمن أن صاحبه له حق وله حرية التعبير عنه، مثلما هي قائمة لمن ينظر إليه أو يسمعه دون تمييز في هذا على أي أساس.

بالطبع فإن للتعليم دورًا مهمًا على هذا الدرب، لا سيما إن كان القائمون عليه من واضعي المناهج والمعلمين مدركين أن قاعدة “تَعلَّم لتتعايش” يجب أن تكون حاضرة في المساقات الدراسية والتنظيم الإداري للمؤسسات التعليمية، والأساليب المتبعة في التدريس، شأنها شأن “تَعلَّم لتعمل”.

في الإعلام

كما أن الإعلام بأنواعه، المقروء والمسموع والمرئي والإلكتروني، ومنظومة القوانين التي تهندس حياة المجتمع، والهياكل الإدارية، والمجتمعات القرابية، ومؤسسات المجتمع المدني، وأماكن التجمعات في الأندية والمقاهي وغيرها، يسهم كل منها بدور في هذا المسار، وإن اختلفت الأنصبة أو الحظوظ أو الفرص أو الأقدار البشرية المتصورة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

التجارب السابقة

ولأن تحصيل العقل المتسامح من الصناعات الثقيلة، فأتصور أن خير معلم للتسامح هو التجارب الحياتية المريرة. فالبلدان التي مرت بصراعات طويلة، بين طوائف دينية، أو قوميات عرقية، أو بين مزيج من هذا وذاك، ثم تبين للمتصارعين بعد أن سالت الدماء أنهارًا وخربت البيوت في ظل فوضى عارمة، أن أيًا منهم ليس بوسعه إزاحة الآخر تمامًا من الحياة أو إجباره على الرحيل من الأرض، ولذا لا بديل عن تقبل العيش المشترك، الذي يمكن أن يبدأ أولًا، وعقب الصراعات مباشرة، بتجنب الآخر، حتى لا يحتك به مجددًا، ثم ينتقل الأمر إلى تقبل وجوده، وبعدها تفهم مصالحه ومطالعة أفكاره وما يعتقد فيه، وشيئًا فشيئًا سيجد الكل أن بينهم مشتركات ليست بالقليلة.

لا يعني هذا بالطبع أن تزول آثار الصراع تمامًا، إذ يظل العقل مشبعًا بذكريات وحكايات عن الموت والدمار، وما هو موجود على الأجساد من ندوب وجروح قديمة، وعلى البنيان من علامة للتخريب، لكن هذا المتروك من الماضي يمكن أن يتحول من مشكلة إلى فرصة، حين يُذكِّر الكل بأن غياب التسامح هو الذي صنع هذا القبح كله والبشاعة كلها، التي ضربت حياتهم على هذا النحو القاسي.

من المتوقع، والطبيعي أيضًا، ألا ينصت الكل إلى النصيحة هنا ويعملون بها، لكن عدد المقتنعين بها يزداد، ويمكن أن يترتب عليها نوع من التسويات أو القبول الطوعي للاختلاف والخلاف، بحيث تظل بعض البواعث الشريرة كامنة في النفوس، لكن هناك حرصًا على أن تظل في كُمونها ولا تنفجر في وجه المجتمع احترابًا أهليًا.

قد لا تكون آثار الدمار والدم ماثلة لعيون الماضين على قيد الحياة، وتصل إليهم عبر أجيال سبقتهم، لكن هؤلاء الناقلين، أو أغلبهم، يكونون قد تعلموا الدرس جيدًا، ويحرصون على تعليمه للاحقين حتى لا يجدوا أنفسهم مرة أخرى في وجه النتائج المروعة التي تترتب على تعميق اللا تسامح أو التعصب وانتشاره.

أهمية العقل المتسامح

word image 1 - العقل المتسامح .. خصائص وتجارب _ الجزء الأول

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في وسط هذه العوامل والدوافع والبواعث والأسباب والظروف يولد العقل المتسامح، وهو نوع من العقول تظل الحياة في حاجة ماسة إليه، رغم ما يقال عن أن التسامح يعني أن طرفًا يضع نفسه فوق طرف ثم يسامحه، فيجعل من وضعه وأفكاره وقيمه هو معيار حكم على “الآخر”.

ففي الحقيقة لا يمكننا أن ننزع أبدًا الميل البشري الطبيعي إلى تعظيم الذات أو على الأقل الانحياز لما ينفعها، فهذا شيء مجبولة عليه النفوس ومركوز فيها، لكن يمكن، وبالتتابع، أن يتعلم العقل الإنساني كيف يؤمن بالتعدد داخل المجتمع الواحد، بل داخل الجماعة الواحدة، رئيسية كانت أو ثانوية، ويعتقد برسوخ في أهمية الانفتاح على الآخر، وكيف أن في هذا خيرًا عميمًا. فبهذا العقل يمكن كبح كثير من النوازع النفسية غير السوية، التي تدفع إلى الاعتداء على وجود الآخرين وحقوقهم.

(ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)

مقالات ذات صلة:

التسامح وأسباب غيابه في المجتمعات

اضغط على الاعلان لو أعجبك

العقلانية ” في قفص الاتهام

التعصب والتسامح في مرآة الممارسات التطبيقية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة