مقالات

السوق

كنت ولا زلت أفضل أن أشتري حاجياتي وأغراضي من السوق المجاور، حيث الباعة الجائلون، وصغار التجار، ناهيك عن بعض الأرامل والثكالى، وبعض الفلاحين الذين يقطعون الأميال والأميال، ربما سيرًا على الأقدام، طامعين في بيع ما تيسر لهم، وما جلبوه معهم من الثمار والخضروات والفاكهة.

أولئكم الذين ما ينتهوا مما في جعبتهم من أغراض حتى يقوموا بشراء بعض ضرورياتهم البسيطة من أسماك، وربما لحوم إن من الله عليهم بفائض من مال، وذلك مما توفر لهم من مكسب زهيد وربح بخس يحصلون عليه من عملية البيع، فيرجعون إلى أولادهم، والسعادة تملأ نفوسهم، وتكسو محياهم، وإذا ما حدث، لا قدر الله، وكثيرًا ما يحدث، ولم يستطيعوا بيع ما لديهم، رجعوا آسفين، وربما باكين، وهم لا يملكون أموالًا يقيمون بها أودهم، ناهيك عن فساد ما تبقى معهم من فاكهة وخضروات.

نساء كادحات

لا تكاد تقع عيني على صنف من الأصناف إلا اشتريته، وحملته معي؛ ذلك لأنني أشتري أغراضي مرة واحدة في الأسبوع، نظرًا لظروف عملي الخاصة من محاضرات، وتدريس، وقراءة، وكتابة، ولعل هذا ما يجعلني حريصًا على آخذ كميات كبيرة من كل شيء، المهم أن تفي بحاجات الأسبوع، فلا أكون مضطرًا لشراء أية أغراض أثناءه.

كنت دائمًا وأبدًا ما أفضل اشتراء أغراضي الأساسية وحاجياتي الرئيسة من هذا السوق، كما أشرت، ربما لأنه أرخص من “السوبر ماركيت”، وهذا مهم، بيد أن الشيء الذي ربما يدفعني إلى ذلك دفعًا، وهو شعور يتنامى لدي مع مرور الوقت، هو جانب معنوي.

كنت أشتري ما أحتاج إليه من هؤلاء الباعة المساكين جبرًا لخواطرهم، سيما وأن جلهم من البسطاء، رقيقي الحال، وكثير منهم من النساء الأرامل، أو المرأة المعيلة، التي كتب عليها أن تتحمل المسؤولية، وتقوم بالإنفاق على بيوتات غاب عنها الرجال؛ موتًا، أو طلاقًا، وربما عجزت عن القيام بالعمل لسبب أو لآخر!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً: غير المرئيين

لا يسألون الناس إلحافا

ما أكاد أشتري شيئًا من إحداهن إلا وتعرض عليَّ الأخرى أن أشتري منها، تارة تبتسم وتقول: “يا بيه إنت مش عاوز كذا”، وتارة يمنعها حياؤها من الكلام، فتنظر في صمت، وإن باحت العينان بكل شيء، فلا أكاد أتمالك تحت وطأة قلب رهيف وروح شفيف، إلا أن أشتري منها ما تبيعه، حتى ولو لم أكن محتاجًا إلى ذلكم الشيء.

لقد كنت أرى أن هؤلاء النسوة يستحققن الصدقة، وتجوز عليهن الزكاة، لكنهن مع ذلك قد جلسن في السوق يبعن ويشترين لسد حاجاتهن، ولئلا يُعْرِّضْنَ أنفسهن لمذلة السؤال، والقيل والقال.

كنت دائمًا ما أرى الواحدة منهن، وقد جلست في شمم، رغم لباسها الرث، وردائها المهترئ، غير عابئة بقيظ الصيف أو قر الشتاء، أراها من الذين قال الله فيهم: “لا يسألون الناس إلحافا”.

عزة النفس والغنى عن الناس

نساء كادحات

ربما جاء عليَّ وقت أكاد أخرج لإحداهن بعض النقود على سبيل الصدقة، بعيدًا عن ثمن ما اشتريته، لكنني أتراجع في اللحظة الأخيرة حتى لا أجرح مشاعرها، أو أقلل من شأنها أمام نفسها، وحتى لا تشعر بالمهانة والقِلَّة.

لا أنسى أنني أقدمت على ذلك مرة مع إحداهن، وليتني ما فعلت، فقالت لي حينها: “يا بيه إحنا مش شحاتين، إحنا بياعين، وبناكلها بعرق جبينا، ولو كنا شحاتين ما كناش قعدنا القعدة دي، يا بيه عاوز تشتري اشتري بفلوسك، موش عاوز أتوكل على الله، ربنا اللي بيرزق وعمره ما هينسانا”، وحينها أحسست بالمرارة، ووخز الألم، واعتذرت لها كثيرًا، طالبًا منها العفو والمغفرة، مؤكدًا لها أنني لم أقصد لها أية إهانة!

يا له من فرح عميم! وأنا أرى مقدار السعادة وهاتيك النشوة التي ترتسم على وجه هذي البائعة أو تلكم حينما يبعن ما لديهن من أغراض، وسرعان ما تلملم الواحدة منهن أغراضها، وتكنس مكانها، ثم تنطلق إلى السماك أو الجزار، وهي في شوق لرؤية أطفالها وقد جلبت لهم ما يحتاجون إليه، شاكرة لله منِّهِ وكرمه!

كنت أشتري كثيرًا وكثيرًا، أفعل ذلك محتسبًا الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، ولذلك أجدني في نهاية المطاف، وبعد انتهاء عملية الشراء هذي، ربما تحصلت على أشياء كثيرة، ربما؟ بل من المؤكد أن المنزل ليس في حاجة إليها.

جبر الخواطر

ربما أكتشف أيضًا أن في حوزتي كميات كبيرة متشابهة من الشيء نفسه، أخذتها من أكثر من بائعة، أفعل ذلك حتى لا أكسر بخاطرها، وجبرًا لها، وحينها لا أعبأ بصراخ زوجتي التي كثيرًا ما تلومني على هذه الكميات الهائلة التي قد تصل إلى عشرة كيلو جرامات من كل صنف، ثم تقول لي هذه الأشياء معرضة للتلف، ولا قيمة لها في البيت، وهذا حرام!

لكنني أهدهدها، وأقول لها: “نأكل منها ما نأكل، ثم نضع الباقي في الثلاجة، وربما نعطي لجارتنا شيئًا منه”، كنت أقول ذلك وأنا موقن أننا لن نتناول كل هذي الكميات، لكنني كنت في غاية السعادة حينما يمر ذلك اليوم وقد جبرت بخاطر هؤلاء النسوة، ويا لها من نشوة وأنا أتخيل حالتهن وقد رجعن إلى منازلهن وقد اشترين ما احتجن إليه في عزة وكبرياء وشمم، بعيدًا عن مذلة السؤال وامتهان كرامتهن في خنوع الحال!

مقالات ذات صلة:

هذه القصة المزورة تحب أن ترددها النساء

تضحيات نسائية خالدة

الصائمون قسرًا!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب