نبوة سقراط
أنا على قناعة تامة بأن العقل البشري الذي هو مناط التكليف وسر التكريم والتشريف من حقه الخوض في كل شيء إلا شيئا واحدا وهو ذات الله سبحانه وتعالى، ولذلك أجد عقلي يسأل هذا السؤال، هل كان سقراط نبيا ؟
والذي يجعلني أقول هذا ما تركه سقراط من دلائل على تلك النبوة، وما تركه القرآن من فسحة في هذه القضية.
ألم يقل القرآن مخاطبا النبي الكريم (ص): }إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا163 وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا{ (163-164) من سورة النساء؟
إذا القرآن يُقر حقيقة وجود أنبياء لم يقصصهم علينا، ولم يأت بأخبارهم أو يلمح إليهم سوى في هذه الآية }وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ{، ما المانع أن يكون سقراط هو أحد هؤلاء الذين لم يقصصهم علينا القرآن؟ إن القرآن لم يذكر سوى آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى وذي الكفل ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعا.
هذا العدد المذكور قليل جدا إلى عدد الأنبياء والمرسلين، فعن أبي ذر (رض) قال: “قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال: “ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير” قلت: يا رسول الله من كان أولهم؟ قال: “آدم”، قلت يا رسول الله نبي مرسل؟ قال “نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلا” ثم قال: “يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم، وأربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك.”(1).
هل كان سقراط نبي؟
ألا يمكننا القول إذا أن سقراط هو أحد أولئك المستترين الذين لم يقصصهم علينا القرآن؟ ربما يسأل البعض، وما وجه الادعاء بنبوة سقراط؟! بمعنى آخر ما الدليل المادي على تلك النبوة المزعومة؟! بادئا أقول للقارئ الفطن، أنا لا أستطيع أن أجزم بنبوة سقراط، ولكن تلك الفكرة هي إحدى المعضلات لفهم سقراط الحقيقي، وتاليا فأنا أسوق أدلة اجتهادية قد تخطئ وقد تصيب.
الدليل الأول: صوت الوحي.
نرى عبر المحاورات السقراطية تأكيدات سقراط المتكررة على أنه يتلقى وحيا من مشير يشير عليه أن يفعل وألا يفعل، وقد أشار عليه هذا المشير بأن الموت خير لا شر فيه في فيدون، كما أن الآلهة هي التي لقبته بالحكيم، يقول سقراط: “أيها الأثينيون رب سائل منكم يقول: وكيف شاعت عنك تلك التهمة يا سقراط إن لم تكن أتيت أمرا إذا؟ فلو كنت كسائر الناس لما ذاع لك صوت ولا دار عنك حديث، أنبئنا بعلة هذا إذ يؤلمنا أن نسارع بالحكم في قضيتك.”(2).
إذا، صوت الوحي الذي يأتي سقراط جعله مميزا بشهادة أبناء وطنه وسقراط ذاته.
ثم يقول في توضيح ذلك الصوت الذي جعله يبدو غريبا ومميزا وليس كسائر الناس: “وأعني بذلك الشاهد إله دلفي، إنكم ولا ريب تعرفون (شريفون) فهو صديقي منذ عهد الصبا، وهو صديقكم منذ ظاهركم على نفي من نفيتم ثم عاد أدراجه معكم، كان شريفون كما تعلمون صادق الشعور في كل ما يعمل، فقد ذهب إلى معبد دلفي وسأل الراعية في جرأة لتنبئه إن كان هناك من هو أحكم مني، فأجابت أليس بين الرجال من يفضلني بحكمته.”(3).
إذا الحكمة السقراطية ذات مصدر إلهي، وهو ما يجعلنا نطمئن إلى القول بنبوة سقراط.
الدليل الثاني: الفلسفة الأخلاقية:
فلسفة سقراط في مجملها أخلاقية، فهو يدعو إلى الفضيلة، وإلى طاعة القوانين حتى ولو كانت ظالمة مما جعل روسو يطلق على سقراط ” نبي الدين الطبيعي”، كما أنه لم يكن معتدا أبدا بنفسه لا في مأكل ولا في مشرب ولا في ملبس، وكان أكثر الناس تواضعا، أي أنه ليس عاليا في الأرض أو من المسرفين، ونحن لم نعهد مثل هذه الأخلاق سوى عند الأنبياء والمصلحين، مما يجعلنا نطمئن إلى أنه كان نبيا لأنه كان يتمتع بالأخلاق النظرية والعملية، تلك التي جعلت القديس أوغسطين يكتب عنه قائلا “سقراط أيها القديس، سلام عليك في رحاب الأنبياء.”(4).
الدليل الثالث: عدم جزعه عند الموت:
لم يجزع سقراط عند الموت، ولم نعهد عليه سوى كل اطمئنان وحب لما هو قادم عليه، بل ساق الأدلة –كما سنرى– على أن الموت خير لا شر فيه، وأنه خلود ما بعده خلود، وتحدث عن مصير الأرواح الطيبة ومصير تلك الأخرى الشريرة، وكل حديثه مما أقرته النبوات من بعده، وما سطرته الكتب السماوية عن الثواب والعقاب، ألا يدل ذلك على ثبوته ثم اطمئنانه عند الموت بما يشبه الاطمئنان عند الأنبياء بنص حديثه هو؟
حيث يقول: “ألا ترى أن عندي من روح النبوة ما عند طيور التم التي إذا أدركت أن الموت آت لا ريب فيه ازدادت تغريدا عنها في أي وقت آخر؟ مع أنها قد أنفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطا منها بفكرة أنها وشيكة الانتقال إلى الله الذي هي كهنته، ولما كان الناس يشفقون هم أنفسهم من الموت، تراهم يؤكدون افتراءا أن طيور التم إنما تنشد مرثية في ختام حياتها، ناسين أن ليس من الطيور ما يغرد من برد أو جوع أو ألم، حتى البلبل والسنونو، بل حتى الهدهد، الذي يقال عنه بحق إنه يغرد تغريدة الأسى،
وإن كنت لا أومن أن ذلك يصدق عليه أكثر مما يصدق على طيور التم، فهي إنما أوتيت موهبة التنبؤ لقداستها عند أبولو، فاستطلعت ما في العالم الآخر من طيبات، فطفقت تُغني لذلك وتمرح في ذاك اليوم أكثر مما فعلت في أي يوم سابق، كذلك أنا، فإني أعتقد في نفسي بأنني خادم قد اصطفاه الله نفسه، وإني رفيق لطيور التم فيما تعمل، فأنا أظن أنه قد أتاني سيدي من التنبؤ موهبة ليست دون مواهبها مرتبة، فلن أغادر الحياة أقل مرحا من طيور التم.”(5).
الفضيلة التي اشتهر بها سقراط
أرأيتم إلى أي حد بلغت شجاعة سقراط وفرحه باستقبال الموت؟ مما يعطينا الحق في القول بأنه كان نبيا، يقول الدكتور النشار ما نصه: “لقد واجه سقراط الموت بشجاعة نادرا ما نجدها إلا لدى كبار المصلحين والأنبياء في التاريخ، وتلك الشجاعة في مواجهة الموت هي ما حُفر في أذهان وقلوب المعاصرين له، فكان ذلك دافعا ليخلدوا ذكراه ويخلدوا أفكاره.”(6).
إجمالا، حياة سقراط بأسرها تنم عن قداسة خاصة لا يؤتيها سوى الأنبياء وقليل من المصلحين والحكماء، وحتى على فرض عدم صحة نبوته فهو في أسوأ الأحوال من أولئك القليلين من المصلحين والحكماء، إنه قديس، أو إن شئت فقل متصوف يتغنى باسم الله، فبينما تراه يعلم الناس أن عليهم أن يهتدوا في حياتهم بفهم واع للمبدأ،
فإن حياته الخاصة كثيرا ما كان يسترشد فيها بشيء يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فلقد رأينا أن صوت مهبط الوحي في دلفي هو الذي حوله إلى دراسة الفلسفة الأخلاقية وأنه اعتقد أنه مكلف برسالة من قبل إله دلفي، كما يحدثنا أفلاطون أن سقراط كان في بعض الأوقات يذهب في غيبوبة وكذلك يروي أفلاطون وكسينوفون أنه كان يسمع صوتا محذرا وكثيرا ما سار على هديه.(7).
هل كانت دعوته محليه؟
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن أيضا: إذا فُرض وجود أدنى إمكانية لنبوة سقراط، فهل يوجد نبي لا يهتم بنشر السلام في منطقة مبعثه؟
بمعنى آخر، لقد شارك سقراط في الحروب البيلوبونزية، ولم يدع إلى السلام بين المدن اليونانية مع أنه رأى بأم عينيه أهوال تلك الحروب وما خلفته من خسائر بشرية ومادية، فهل يُعد هذا نبيا؟!
أيضا، في كل محاورات سقراط، لم يتحدث سوى إلى الأثينيين، ففي كل كلمة يريد قولها يقول: “أيها الأثينيون” فهل هو نبي محلي لا تتجاوز دعوته إطار مدينته؟ لو كان محليا لجاز أن يرسل إلى جزيرة اليونان بأكملها وليس إلى مدينة واحدة، هذا مجرد فرض عقلي بحت! وبذات المنطق نتساءل، لماذا خص سقراط بالذات بالوحي؟!
إن لم يكن نبيا فهو على الأقل من المصلحين
لم نقرأ أو نسمع عن أحد من سابقيه ادعى مثل هذا القول، ولم نسمع عن أحد من لاحقيه مثل هذا القول، صحيح أن أتباع فيثاغورت ادعوا له النبوة، لكنه لم يجرؤ أن يتحدث عن وحي يأتيه أو مشير يشير عليه مثلما فعل سقراط!
إذا ادعاء سقراط للنبوة وادعائه تلقي الوحي عن الآلهة أو وجود مشير يشير عليه أو روح خفية تخاطبه بأن يفعل وألا يفعل، كل ذلك غير معهود في تاريخ الفلسفة السابقة على سقراط، خاصة الفلسفة اليونانية، حتى أولئك الذين ادعوا النبوة لم يأتوا عليها بدليل مثلما فعل سقراط، ومن ناحية أخرى محلية دعوة سقراط واقتصارها على أثينا فقط تلقي بظلال الشك على مسألة النبوة، لتبقى في النهاية الإجابة على السؤال هل كان سقراط نبيا إجابة عسيرة،
ولكن يشفع لها أنه إن لم يكن نبيا فهو على الأقل من المصلحين العظام في تاريخ الجنس البشري، وإن كان هذا لا يلغي أبدا كنه التساؤل عن النبوة، إذ أن الدلائل كثيرة، والاعتراضات أكثر، مما يضفي على تلك المعضلة طابعا خاصا من الظلام وانعدام الرؤية إلا بقدر اجتهاد المجتهدين ليس إلا.
ولعل الإنصاف يقتضي أيضا التساؤل، هل سبق وأن رأينا قديسين ليس لديهم ما يبشرون به؟ وأنبياء لا يعلنون عن أي رسالة؟ ومدعي رؤى ليس عندهم أي مذهب لإعلانه للعالم؟ ولا أي عقيدة لفرضها أو أي إرشاد يملونه؟ سقراط وحده هو المنوط بالإجابة عن تلك الأسئلة.
الهوامش
(1) والحديث ذكره الإمام ابن كثير مع غيره في الأحاديث التي تحمل ذات المعنى في تفسير أواخر سورة النساء وتحديدا الآية (164).
(2) أفلاطون، محاورة الدفاع، ترجمة زكي نجيب محمود، ضمن محاورات أفلاطون، ص51.
(3) نفسه ص51.
4) Borny (m) : The Medivel plilosophy , Harvard University press, macmillan , 1964, p.26.
(5) فيدون، ضمن محاورات أفلاطون، ترجمة زكي نجيب محمود، ص158-159).
(6) د. مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، ج2، ص104.
(7) باركر (آرنست): النظرية السياسية عند اليونان، ج1، ترجمة لويس اسكندر، مراجعة د/ محمد سليم سالم، مؤسسة سجل العرب، القاهرة 1966م، ص168.
اقرأ أيضاً:
سفسطائيو العرب والبحث عن سقراط!
سقراط في المدينة…هل من سبيل للرحمة؟
آدم وسقراط والحديث عن الرغبة واليقظة!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا