العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء التاسع والخمسون
المدرسة المشَّائية: (57) إخوان الصفا وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [13]: ميتافيزيقا الموسيقى: سرورُ عالمِ الأرواح
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 58) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [12]: ميتافيزيقا الموسيقى: جواهر وتأثرات روحانية. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.
1. الموسيقى: الحكماء يعالجون بالموسيقى
إذا كانت الموسيقى صناعة روحانية فإن الحكماء يعالجون بها الأسقام والأمراض: وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “فصناعة الموسيقى استخرجتها الحكماءُ بحكمتها، وتعلمها الناسُ منهم واستعملوها كسائر الصنائع في أعمالهم ومُتصرفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة”. “واستخرجوا أيضًا لحنًا آخر كانوا يستعملونه في المارِستانات (المستتشفيات) وقتَ الأسحار، يخفف ألم الأسقام والأمراضِ من المريض، ويكسر سَورتَها، ويشفي من كثير من الأمراض والأعلال”.
2. الموسيقى: بعض نوادر الفلاسفة في سماع الموسيقى والغناء: (حركوا قوى النفس الشريفة لا شهواتها البهيمية)
يروي إخوان الصفا بعضَ نوادر الفلاسفة في الموسيقى، ومن ذلك قول أحد الحكماء: “إن للغناء فضيلةً يتعذرُ على المنطق إظهارَها ولم يقدرْ على إخراجها بالعبارة، فأخرجها النفسُ لحنًا موزونًا، فلما سمعتها الطبيعةُ استلذتها وفرحتْ وسُرتْ بها، فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها، ودعوا الطبيعة والتأمل لزينتها لا تغرنكم”. وقال حكيم للمستمع: “احذروا عند استماع الموسيقى أن تثور بكم شهواتُ النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة، فتميل بكم عن سَنَن (طريق) الهدى، وتصدكم عن مناجاة النفس العُليا”. وقال حكيم للموسيقار: “حرك النفس نحو قواها الشريفة من الحلم والجودِ والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرك شواتها البهيمية”.
3. الموسيقى: أوتار العود ونغمات الأفلاك
يقرر إخوان الصفا إن لحركات الأفلاك نغماتٍ كنغمات العيدان والأوتار. قال حكيمٌ: “إن وزن نقرات وتر الموسيقار، وتناسب ما بينها، ولذيذ نغماتها، تُنبئ النفوسَ الجُزئيةَ بأن لحركاتِ الأفلاك والكواكب نغماتٍ متناسبةً مؤتلفةً لذيذةً”. و”إن نغمات حركات الموسيقار تذكر النفوسَ الحزينةَ التي في عالم الكون والفساد سرورَ عالمِ الأفلاك، كما تذكر نغماتُ حركاتِ الأفلاكِ والكواكب النفوسَ التي هي هناك سرورَ عالم الأرواح، وهي النتيجة التي أنتجت من المقدمات المقرر بها عند الحكماء، وهي قولهم إن الموجوداتِ المعلولاتِ الثواني تحاكي أحوالُها أحوالَ الموجودات الأولى التي هي عِلل لها، فهذه مقدمة واحدة، والأخرى قولُهم إن الأشخاص الفلكية عِللٌ أوائلُ لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وإن حركاتها عِلةٌ لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي نغماتها”.
4. الموسيقى: ذكر بعض حكماء الموسيقى: فيثاغورس ونيقوماخوس وبطليموس وأُقليدُس
“ويقال إن فيثاغورس الحكيمَ سمع بصفاءِ جوهرِ نفسِه وذكاءِ قلبِه نغماتِ حركاتِ الأفلاك والكواكب، فاستخرج بجودة فطرته أصولَ الموسيقى ونغماتِ الألحان، وهو أول من تكلم في هذا العلم، وأخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم بعده نيقوماخوس وبطليموس وأُقليدُس وغيرهم من الحكماء”. “وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادات، عند القرابين في سنن النواميس الإلهية، وبخاصة الألحان المحزنة المرققة للقلوب القاسية، المذكرة للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحاني ومحلها النوراني، ودارها الحيوانية (الحيوان: فعلان من الحياة بمعنى الأبدية، وتستعمل الحياة في الدنيا وتستعمل الحيوان للحياة في الجنة)”. “واعلم يا أخي أنك إن لم تؤمن للأنبياء عليهم السلام، بما أخبروك عنه من نعيم الجِنان ولذات أهلها، ولم تصدق الحكماء بما عرفوك من سرور عالم الأرواح، ورضيت بما تخيل لك الأوهام الكاذبة والظنون الفاسدة، بقيت متحيرًا شاكًا ضالًا مُضلًا”.
خلاصة تأويلية
الموسيقى للتأثرات الروحية لا الجسمية، لسرور عام الروح، لا اللذات الحسية، للميتافيزيقا، لا للفيزيقا. لقد اكتشف فيثاغورس صناعة الموسيقى لنسمع في الدنيا ألحانَ الفلك وفضيلةَ العالم الروحاني، بينما ركز مفسرو علمِ الموسيقى على صناعة الآلات والإبداع في الألحان، التي استخدمها بعد ذلك الناسُ للهو والتلذذ بالشهوات الحسية الدنيوية فقط، فنسوا –على حد تعبير ديفو– العالمَ الروحاني. لكن إخوانَ الصفا لم ينسوا قط ذلك العالم، وقرروا في ثقة: “إن صناعة الموسيقى يستعملها كلُ أحدٍ من الأمم، ويستلذها جميعُ الحيوانات التي لها حاسة السمع، وإن للنغمات تأثيراتٍ في النفوس الروحانية، كما أن لسائر الصنائع تأثيراتٍ في الهيُوليّات الجسمانية”.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم: ميتافيزيقا الجغرافيا: الأرض: نقطةٌ صغيرةٌ خُلقت لأمرٍ عظيم.
مقالات ذات صلة:
الجزء الخامس والخمسون من المقال
الجزء السادس والخمسون من المقال
الجزء السابع والخمسون من المقال
الجزء الثامن والخمسون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا