العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثالث والخمسون
المدرسة المشَّائية: (51) إخوان الصفا وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [7]: ميتافيزيقا العدد (الأرثماطيقي): الرفض الرياضي للتعصب بين البشر
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 52) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [6] ميتافيزيقا المربعات الرياضية والطبيعية والروحانية.
ونواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.
1. علم العدد: لسانٌ ناطقٌ بالتوحيد والتنزيه
إن كتاب العالم (علم الطبعة) كتابٌ مكتوبٌ بلغة الرياضيات، والعلم الحق عند جالليو هو علم الطبيعة المكتوب بلغة الرياضيات، لكن عند إخوان الصفا العلم الحق هو معرفة الله التي تبدأ بدراسة الرياضيات وأولها علم العدد.
إن معرفة التوحيد هو العلم الحق والقول الصدق، وإن علم العدد لغة التوحيد ولسان ينطق بالتنزيه، فالله واحدٌ بالرجوع إلى علم العدد كما يقول إخوان الصفا: “فعلم العدد لسانٌ ناطقٌ بالتوحيدِ والتنزيهِ وينفي التعطيلَ والتشبيهَ ويرد على من أنكر الوحدانية، وذلك أن العدد متى بَطُلَ منه الواحدُ، فقد فسد نظامُه وتعطلتْ أقسامُه، كذلك من أنكر الواحدَ الحقَ، أي الله تعالى، فلا ثباتَ له على حالٍ من الأحوال ولا عملٍ من الأعمال”. هكذا يحاول إخوان الصفا حلَ إشكالياتِ علمِ الكلامِ الأربع الرئيسة: التوحيد، والتنزيه، والتعطيل، والتشبيه، حلًا عدديًا رياضيًا.
2. العدد: تفهمُ الاختلافاتِ بين المذاهب المتعارضة
قلنا قبل ذلك إن رسائل إخوان الصفا بمنزلة مشروع إنساني لا فرقَ فيه بين الفرق (راجع ج 47). وهنا، يصنف إخوان الصفا المذاهب وفقًا للعدد: فالمسلمون يمكن الرمز لهم بالعدد (1) والمجوس (2) والنصارى (3) وأرسطو وأصحاب الطبيعة (4) وهناك من المذاهب التي يمثلونها بالأعداد (5)، (6)، (7)، (8)، (9). ويقول إخوان الصفا: “وأطنبتْ كلُ طائفةٍ في ذكر ما سنح لها وأغفلتْ ما سوى ذلك. فأما الحكماء الفيثاغورسيون فأعطوا كلَ ذي حقٍ حقَه، إن الموجودات بحسب طبيعة العدد، وهذا مذهب إخواننا أيدهم الله”.
هكذا يصنف إخوان الصفا المذاهبَ بإعطاء كل واحد منها عددًا معينًا وفق عدد المبادئ الخاصة بهم، ويرون أن هذه المذاهب التسعة أساسية للفكر كأهمية الآحاد لعلم الأعداد. وهذه الطريقة لتصنيف المذاهب تفتح بابًا للاتفاق بين المذاهب، فكل عدد يستند إلى السابق وكلها يعود إلى الواحد، وكلها شريكة في المتتالية الحسابية من 1 إلى 9 التي هي مذهب المذاهب عندهم. وليس مطلوبًا من أصحاب كل مذهب إلا تفهم مذاهب غيرهم وعدم الاقتتال مع من يخالف مذهبهم، فذلك التفهم يدرأ عن الجميع مخاطر العصب والإبادة والعنصرية والحروب التي لا تنتهي بين البشر بسبب اختلاف الناس في المذاهب. إن العيش المشترك بين المذاهب كلها يستند إلى الواحد فيجب أن يكون الواحد نقطة التقائهم المشتركة، ومجال تقبل كل مذهب للمذهب المخالف له. إن الواحد ساحةٌ مشتركة للتعايش السلمي بين البشر، يمكن أن تلتقي عندها المذاهب كلها. أما المذاهب التي لا تعود إلى الواحد فإن إخوانَ الصفا لا يرضونَ بها، إذ لا توجد أرضية مشتركة يمكن أن يلتقي عندها المتناقضون تناقضًا مطلقًا.
3. الرفض المطلق لأهل الصِفْر
لا يتفهم إخوان الصفا الإلحادَ ويرونه من الدرجة صفر، وذلك وفقًا للرياضيات اليونانية التي لم تعرف مفهوم الصفر. يقول إخوان الصفا: “ثم اعلم أن علةَ (سبب) تركهم (الملحدون) الدين أصلًا من أجل أنهم لما تأملوا بعقولهم اختلافَ أهل الديانات، وجدوا دينَ كل قومٍ مَعْيُوبًا عند قومٍ آخرين، ولم يجدوا مذهبًا ولا دينًا بلا عيبٍ، فتركوا الدينَ جملةً من أجل هذا، ولم يتأملوا ولا فكروا بأن كون العقل بلا دين أعْيَبُ وأقبحُ من كل عيبٍ”. إن الشرك هو كثرة للواحد، وقائم على الواحد فيتفهمه الإخوان (يتفهمونه ويتعايشون معه، لكن لا يرضونه ولا يقبلونه مذهبًا لهم)، أما الإلحاد فهو إنكار للواحد وهذا يجعل بناء المتتالية الحسابية مستحيلًا، وبناء عليه تصبح المعرفةُ كلُها مستحيلةً. فبرفض الواحد يرفض الملحدُ المبدأَ المشترك بين المذاهب كلها، فيطرد نفسَه خارج الإطار الجماعي. إن خطأ الملحدين –بالنسبة إلى إخوان الصفا– يُبنى على حقيقة عَرَضِية يحولونها إلى حقيقة جوهرية. وهذه الحقيقة هي وجود عيوب في الأديان كلها (الدين كممارسة بشرية لا الدين بما هو دين)، فيرفضون الدين بذاته كاملًا بدلًا من محاولة إصلاحه، أو كما يرى إخوان الصفا محاولة تكميله بمنهج آخر (إصلاح المتدينين وتكميلهم بالفلسفة لا تكميل الدين بما هو في ذاته واحد). إن إخوان الصفا –على حد تعبير جيوم ديفو– ينتقدون التعصبَ بنوعيه: الموقف المادي الذي ينفي الآخرة، والموقف المتعصب المقتنع باحتكاره للحق. إن إخوان الصفا يحاولون التعبير عن الآية الكريمة التي تقول: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
خلاصة تأويلية لميتافيزيقا العدد: الحقيقة الفلسفية للمتتالية الحسابية
يرى إخوان الصفا الأعداد الأربعة الأولى منتشرة في ما حولهم كله سواء في الأمور الطبيعية أم البشرية، ويرون كذلك أن الأشياء كلها ذات حقيقية فلسفية رياضية خاضعة لفكرة المتتالية الحسابية، وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “ثم اعلم أن من الأشياء الموجودة ما هي على أعداد مخصوصة، ومنها ما هي في البروج والأفلاك، ومنها ما هي في الأركان والأمهات، ومنها ما هي في خِلقة النبات، ومنها ما هي في تركيب جُثة الحيوانات، ومنها ما هي في سُنن الشرائع من المفروضات، ومنها ما هي في الخطاب والمحاورات. فمن ذلك أن الله تعالى أنزل القرآن بلغة فصيحةٍ هي أفصح اللغات، وجعل هذا الكتاب مُهيمنا على كل كتاب أنزله قبله، وجعل هذه الشريعة أتم الشرائع وأكملها، وحكم في سُنن المفروضات أمورًا مثنويات ومثلثات ومربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات ومثمنات، وما زاد بالغًا ما بلغ، ليكون إذا تَأملَ أولو الألباب، وتفكرَ فيها أولو الأبصار، واعتبروا فيها، وجدوا في سننها وأحكامها أمورًا معدودة مطابقةً لأمور من الرياضيات والطبيعيات والإلهيات، ويتعلمون ويتيقنون أن هذ الكتاب هو من عند الصانع الحكيم الذي هو صانع المخلوقات وبارئ الموجودات”.
لقد تابع إخوان الصفا نظريات الفيثاغوريين وأضافوا إليها وطوروها تطويرًا، منتهين إلى أن علم العدد لسان ينطق بالتوحيد والتنزيه، وينفي التعطيل والتشبيه، ويرد على كل من أنكر الوحدانية. هكذا كان علم العدد عند الإخوان من “الإفاضات العقلية” و”التأييدات الإلهية”، وإنه –علم العدد– القائد للنفس إلى معرفة التوحيد، والإقرار بالمبدع الأول سبحانه، ولذلك صارت العلومُ تابعةً له (للعدد)، وهو أصل لها كلها، وهي فروع له، وهو القول الذي تفرعت منه المقولات، وشجرة اليقين، ومبدأ الشرع والدين، فهو هلال العارفين، ومصباح المتفلسفين، فهو مبدأُ كل مقال، وإليه مآلُ كل حال، أوله مطابقٌ لآخره، وآخره متصلٌ بأوله، فأوله الواحدُ الذي لا مخلوق موجود قبله، وآخره متصل بالواحد الذي لا شيء بعده. كذلك الواحد القديم الأزلي، لا بداية له فيه فيوصف بها، ولا نهاية له فيعرف بها. وإذا كان الله الواحد هو المقصد والغاية النهائية فلا ينبغي أن يتقاتل البشر باسمه أو يُكفر بعضُهم بعضًا. وهكذا وجد إخوان الصفا –في العدد– حلًا رياضيًا لمحو التعصب المقيت بين البشر.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم: ميتافيزيقا الهندسة (الجُومَطْرِيا).
الجزء التاسع والأربعون من المقال
الجزء الواحد والخمسون من المقال
الجزء الثاني والخمسون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا