مقالات

من خطاب أحمد عرابي (١٨٤١ – ١٩١١م) لمجلة الهلال .. الجزء الأول

حضرة صاحب مجلة الهلال الأنور جورجي أفندي زيدان، أما بعد

فقد وصلني الآن العدد ١٧ من هلالكم الأغر، وبمراجعته وجدته مصدرًا برسمي الأخير ورسمي العسكري قبل ٢٠ سنة، وفيه مختصر ترجمة حياتي مع مختصر النهضة الوطنية المصرية التي قمت بها، طالبًا من الحكومة إذ ذاك رفع المظالم ومنع التعصبات الجنسية، ونشر أعلام العدل والمساواة بين جميع المستظلين بظل قوانين الحكومة، فانعكست المرئيات وساء الحال حتى آل الأمر إلى ما آل إليه مما هو مسطر في بطون التواريخ.

فأشكر حضرتكم على تهنئتكم لي بما نلته من فضل مراحم الحضرة الفخيمة الخديوية، وعلى حسن ظنكم بي، ولكنني رأيت أن الذي أخبركم بتاريخ نشأتي الأولى قد كذبكم الحديث وخلط في روايته، وإذ ذكرتم أن إخواني المصريين مشتاقون إلى معرفة ترجمة حياتي، مع تاريخ الحادثة التي أدت إلى الانقلاب العظيم في مجاري الأحوال المصرية، فصار حقًا واجبًا عليّ كشف حقيقة نشأتي تلبية لرغبتهم، لأنهم أولى بمعرفة ذلك من الأجانب الذين لا يزالون يسألونني عن ترجمة حياتي وحقيقة سيرتي، فأقول:

في أوائل سنة ١٢٨٦ هجرية ترقيت إلى رتبة “صاغقول أغاسي” في بني سويف.

وبعد العودة إلى مصر صار ختان المرحوم الطيب الذكر طوسون باشا النجل الوحيد للمرحوم سعيد باشا، فأولم المرحوم الخديوِ وليمة شائقة دعا إليها جميع أعضاء العائلة الخديوية في قبة عظيمة، حضرها جميع الضباط والذوات وغيرهم من الأجانب، وبعد الطعام انتصب الخديوِ –رحمه الله تعالى– قائمًا وقال خطبة ارتجالية ذكر فيها:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

“إن من أمعن النظر في تاريخ بلادنا هذه وتوالي حوادثها المحزنة، لا يسعه غير الأسف والتعجب، إذ تتوالى الأمم الأجنبية على أهلها ويظلمون سكانها كالكلدانيين والفرس قبل الإسلام، والترك والأكراد والشركس وغيرهم بعد الإسلام، وكلهم يفسدون ولا يصلحون، وإني عزمت على تثقيف أبناء البلاد وتهذيبهم وترقيتهم، حتى تكون حكومة البلاد بأيديهم بصفة كوني مصريًا وبالله الاستعانة”.

فوقع هذا الخطاب على من حضر من غير المصريين وقوع الصواعق وتهللت وجوه المصريين وشكروا ودعوا وانفضت الحفلة، ثم في أواخر سنة ١٢٧٦ هجرية ترقيت إلى رتبة “بكباشي”، وفي أوائل سنة ١٢٧٧هجرية أحسن إليّ برتبة “القائمقام” الرفيعة، كما أحسن بها على السيد محمد باشا النادي وعلى المرحوم راشد باشا راقب، الذي استشهد بحرب الحبشة في سنة ١٢٩٣هجرية، وعلى المرحوم عثمان باشا رفقي الذي صار ناظرًا للجهادية قبل الثورة الوطنية، فكنا أربعة قائمقامات اثنين مصريين واثنين شركسيين، وكل منا استلم قيادة “آلاي بيادة”.

وفي أوائل سنة ١٢٧٩ هجرية سافر المرحوم سعيد باشا إلى أوروبا لمعالجة نفسه من داء السرطان، وكان بمعيته المرحوم “محمد علي باشا” الحكيم المصري الذي استشهد في حرب الحبشة، فصدر أمره الكريم إلى قائمقام خديوِ فخامة إسماعيل باشا الخديوِ الأسبق بطلب جميع الضباط المصريين من بلادهم وإقامتهم في قصر النيل، ومداومتهم على التدريس في القوانين العسكرية، يقول:

“إن الضباط الوطنيين المترقين من تحت السلاح قد اشتغلوا بملازمة نسائهم وتركوا دروسهم، ولو تركناهم على هذا الحال لفقدوا العافية والنظر وصاروا عبرة لمن يعتبر، وبما أننا نحن الذين ربيناهم ورقيناهم وأظهرناهم، فلا يصح لنا تركهم على هذه الحال التي ذكرناها، فقد اقتضت إرادتنا جمعهم من بلادهم وعدم تمكينهم من نسائهم، حتى ولا بالنظر إليهن بالعين، والتشديد عليهم بمداومة التدريس ليلًا ونهارًا في قصر النيل”.

وبناء على هذه الإرادة صار اجتماعنا في قصر النيل، ثم في ربيع الأول انتدبت لفرز الصف ضباط في الوجه القبلي، وتعيّن معي حكيم للفرز المرحوم سالم باشا سالم الحكيم وكان برتبة قائمقام أيضًا.

وفي ٢٧ رجب من تلك السنة توفي المرحوم سعيد باشا، ودفن في الإسكندرية بمدفن مجاور لمسجد النبي دانيال عليه السلام بعد عودته من أوروبا، وجلس على الأريكة الخديوية ابن أخيه إسماعيل باشا الخديوِ الأسبق.

وحاصل الأمر أني دخلت العسكرية نفرًا بسيطًا، وبلغت رتبة القائمقام في أواخر سنة ١٢٧٧ هجرية بجدي واجتهادي وسهر الليل والنهار على حد قول القائل “من طلب العلا سهر الليالي”، ونجح كثير من تلامذتي نجاحًا تامًا حتى كانوا في مقدمة جميع الضباط في الامتحانات العمومية، وكان السبب في هذا الاجتهاد الغريب الذي فاقوا به المتخرجين في المدارس الحربية، وكان أغلبهم آمّين رغبة المرحوم سعيد باشا في تقدم أبناء الوطن ومساواتهم بغيرهم كما ذكر، ومحبته لهم وانعطافه إليهم ومعاملته للجميع بالعدل والمساواة، مع تفقد أحوالهم ومراعاة سيرهم وحسن سلوكهم كأنهم أولاده، وكفى بالأمر الصادر منه وهو في بلاد أوروبا في حقهم مذكور آنفًا برهانًا صادقًا على حسن معاملته للوطنيين، كأنه كان وصية منه عليهم لمن يخلفه، وهذا هو الذي أوغر علينا صدور إخواننا من الترك والشركس وغيرهم.

يتبع…

اقرأ أيضاً: 

قاسم أمين والأميرة نازلي

الباشا والجبرتي

الرجل الذي استطاع التسويق لنفسه

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمرو أبو الحسن المنشد

مدرس أمراض الصدر كلية الطب – جامعة أسوان