مكانة العقل في الفلسفة العربية – الجزء الثاني
لايزال حديثنا موصولا حول مكانة العقل في الفلسفة العربية، فإذا كنا تناولنا في الجزء الأول كيف أعلى فلاسفة المشرق من قيمة العقل، ونظرا لما تقتضيه منهجيتنا في الكتابة واحتراما منا لقارئنا المثقف المستنير فإنه ينبغي علينا قبل توجيه دفة الحديث شطر فلاسفة المغرب ينبغي علينا الحديث عن متكلمي الإسلام وكيف أعلوا من مكانة العقل.
علماء الكلام
من خلال تعريفات علم الكلام نجد أن جل تعريفاته تدور حول مفهوم واحد ألا وهو الدفاع والنفاح عن العقيدة الإسلامية ضد ما أثير حولها من شبهات، مثل شبهة الحديث عن الذات الإلهية وعلاقتها بالصفات، ومثل إثبات الوحدانية،
وأيضا مشكلة النبوة بين منكر ومؤيد، والدفاع عن هذه القضايا متسلحين بسلاح العقل بما لا يتعارض مع النقل، فنجد على سبيل المثال أنصار الاتجاه العقلاني في علم الكلام “المعتزلة” يرفعون العقل مكانا عليا مستخدمين التأويل العقلي لعلاج مشكلة مثل رؤية الله تنزيها للذات الإلهية، وأن الله على حد قولهم لايرى رؤية حسية، ومن ثم أوّلوا قوله “ناظرة” أي منتظرة لأمر الله في قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة) سورة القيامة_ الايتان 22-23.
وإن كان هذا التأويل لم يلق قبول الأشاعرة، لكن هو اجتهاد وإعمال للعقل من قبل المعتزلة.
الأشاعرة
وكذلك الأشاعرة أنزلوا العقل منزلته الرفيعة خصوصا عندما قدموا دليلا عقليا أثبتوا من خلاله وجود الله تعالى، هذا الدليل حتى وإن كان به عوار كما ذهب إلى ذلك ابن رشد إلا أنه اجتهاد عقلي من الأشاعرة، هذا الدليل يسمى بدليل التمانع بمعنى امتناع وجود إلهين وإلا سيحدث مالا يحمد عقباه، لأن الإثنين لايمكن أن يظلا على اتفاق طول الوقت ومن ثم لزم وجود إله واحد.
العقل والشرع
وهكذا الحال بالنسبة لباقي الفرق الكلامية مثل الماتريدية. الركون إلى العقل بما لايعارض الشرع وإن كنا نرى أنه ليس ثمة تعارض بينهما، لماذا؟ لأنهما أثران من أثر الكامل الإله، فكيف يختلفان؟ بل والأديان جميعها أعلت من شأن العقل ووضعته في مكانته التي يستحقها، فإذا استعرضنا الكتب المقدسة نجدها القرآن، العهد القديم، العهد الجديد، نجدها جميعا تعج بالآيات والإصحاحات التي تعلي من شأن العقل. هذا بالنسبة لعلماء الكلام وإعلائهم لقيمة العقل.
فلاسفة العرب المسيحيين
وإذا ما تركنا علماء الكلام واتجهنا ناحية فلاسفة العرب المسيحيين، فسنجدهم لايقلون عن فلاسفة الإسلام في إعلائهم لشأن العقل، حتى من برع منهم في الترجمات من اليونانية إلى العربية وخصوصا إسحاق بن حنين وابنه حنين بن اسحاق لم يكونا مجرد نقلة ترجموا التراث اليوناني فقط، وإنما أدخلوا عليه مسحات عقلية شرحا وتهذيبا وتنقيحا خصوصا مؤلفات أرسطو الطبيعية والميتافيزيقة،
وكذلك عبد المسيح بن ناعمة الحمصي، وأبو بشرمتى بن يونس، وكذلك نجد يحيى بن عدي الذي تتلمذ على يدي الفارابي الذي كان تلميذه النجيب الذي تأثر أيما تأثر بكتاب الفارابي مقال في معاني العقل،
وأيضا نجد أبو إسحاق المؤتمن بن العسال الفيلسوف المسيحي الملقب بالزاهد والذي يكفينا منه كتابه ترياق العقول في علم الأصول والأسرار الخفية في علم المسيحية، وكيف أعلى هذا المفكر من مكانة العقل في دراسته للكتاب المقدس وكيف عرض قضاياه على العقل.
مفكرين معاصرين
وإذا ما تركنا هؤلاء واتجهنا ناحية مفكرين معاصرين فاننا نجد الأب جورج قنواتي قدس الله روحه مؤسس مكتبة دير الآباء الدومنيكان بالقاهرة والذي تخصص في ابن سينا ومقالاته العقلية وكيف أظهر ابن سينا في العالم المسيحي وكيف تأثر بكتابات الشيخ الرئيس العقلية، وكذلك الأب جورج طرابيشي صاحب المنهج العقلاني، صاحب الرؤية النقدية للواقع المرير الذي يجسد الصراع بين المسيحية والإسلام، وكيف أسس نقده الموضوعي على أسس عقلية، أليس هذا إعلاء لقيمة العقل؟
والأمثلة كثيرة، ليس هذا وحسب بل تصديه للرد على كثير من المستشرقين غير المنصفين الذين اتهموا الفلسفة العربية أنها فلسفة يونانية مكتوبة بلغة عربية، وهذا ما سنتحدث عنه في الجزء الثالث من مقالنا، ثم بعد ذلك ننطلق بكم محلقين في سماء عقلانية الفلسفة العربية في بلاد المغرب والأندلس.