علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

العُنْفُ المُقَدَّسُ .. الجزء الخامس

"العَمَلُ الشَّرْعِيُّ بَيْنَ رُوْحِهِ وَظَاهِرِهِ"

إن العمل الشرعي وفق ما عرضتُه آنفًا له “ظاهر” و”رُوْح”، أما الظاهر فهو امتثال الأمر من خلال الدخول في الأفعال الاعتقادية والاشتغالية، وأما الرُّوْح فهي التخلُّق بالأفعال للوصول إلى الله، ومعنى التخلُّق بالأفعال أن تُرى الآثار الأخلاقية للأفعال الشرعية بشقيها، في سلوك العامل، تلك الآثار الأخلاقية المستمَدّة من معاني أسمائه سبحانه وصفاته، ولذلك يكون هذا “التخلُّق” مُفْضِيًا بالعامل إلى الوصول إلى الله، وعلى قدْرِ قيام العامل بحَقَّيْ ظاهر العمل ورُوْحه يكون استحقاقه للكمال في سُلّم قيمة العمل، ومن ثم يتدرج العاملون في مراتب الكمال وتتعدد منازلُهم على مدارج الطريق إلى الله، ذانِك التدرج والتعدد اللذان يتجليانِ في اختلاف مدارك العاملين قوةً وضعفًا، وتفاوت أفعالهم زيادةً ونقصًا، وتباين أخلاقهم ارتفاعًا وسفولًا.

مكانة الروح في ظاهر العمل الشرعي

إن إظهار مكانة هذه “الرُّوح” من العمل الشرعي فيه بعضُ اللبس الذي يقتضينا مزيدَ توقفٍ معه، لما سنراه بعد ذلك من آثار الفصل بين ظاهر العمل ورُوْحه على تحوّل ظاهر العمل من لُطف مُنَزَّه دِينًا إلى عُنف مقدَّس تديُّنًا.

فهذه الرُّوح تحتلّ موقعين من ظاهر العمل الشرعي، الأول: من حيث قيمتها وأهميتها لظاهره، والثاني: من حيث زمن إنجازها وتحقيقها مقارنة بظاهره، لنتوقف مع كل موقع من الموقعينِ:

الأول: “قيمة روح العمل” مقارنةً بـ”ظاهره”

إن هذه الرُّوح من حيث قيمتها، تعدُّ مُؤَسِّسَةً للعمل الشرعي، إذ إن هذه الرُّوح ما هي إلا غاية للعمل الشرعي، وما العمل الشرعي إلا وسيلة لها، فلو كان العمل الشرعي بناءً، فأساسُه عند إقامته أو الدخول فيه امتثالًا وفعلًا، هو استحضار رُوحه المتمثلة في المقتضيات الأخلاقية لتلك الأوامر والأفعال، إذ إن مستوى التخلُّق بالأفعال في السلوك أعظمُ قيمةً وأهمُّ أثرًا من مستوى امتثال الأمر والدخول في الفعل، لأن التخلُّق سيُفضي بالعامل إلى الله المقصود الأصلي من الرحلة، أما امتثال الأمر والدخول في الفعل دون استحضار رُوحه فلو نفع في النجاة من عقاب ترك العمل، فلن ينفع في تحصيل الوصول إلى الله، لذلك قلت إن هذه الرُّوح، من حيث قيمتها، مؤسِّسَةٌ للعمل باعتباره سبيلًا إلى الله.

الثاني: مرتبة إنجاز العامل لـ”رُوح العمل” مقارنة بإنجازه “لظاهره”

إن العمل الشرعي من جهة إنجازه يتأخر إنجاز رُوحه عن إنجاز ظاهره في الزمن، إذ إن إنجاز روحه يحتاج تفاعلًا من العامل يتمثل في مجاهدته لنفسه وحمله لها على التخلق بمقتضيات الأفعال بشقيها، إذ إن جانب الظاهر في العمل الشرعي المتمثل في امتثال الأوامر والدخول في الأفعال أوّلُ زمنًا وأهون مُؤْنَةً وأخفُّ ثقلًا من جانب الروح المتمثل في التخلق بالفعل والوصول إلى الله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هكذا فـرُوح العمل الشرعي من حيث قيمتها متقدمة على ظاهره، وهذه الرُّوح ذاتها من حيث مرتبتها في الإنجاز والتحقُّق متأخرة عن ظاهر العمل، وهذا ما قصدته باحتلال الروح لموقعين داخل العمل الشرعي.

إن تأخر روح العمل عن ظاهره من حيث الإنجاز، ومركزيتها من حيث القيمة، يجعل للعمل الشرعي عمقًا كبيرًا، وهو ما يعني أن العمل الشرعي بعد دخول العامل فيه فعلًا، ما زال يمثّل مجال اختبار للعامل، وعليه فالتميُّز بالدخول في العمل الشرعي فعلا ظاهرًا لا يستلزم التميز في تحقيق روحه غايةً لهذا الفعل الظاهري.

معنى المعنى أن العمل الشرعي بعد دخول العامل فيه ما يزال موقوفًا على خطر أكبر من خطر عدم الدخول فيه، إذ إنّ العامل يواجه بعد دخوله في العمل الشرعي، اختبارًا أصعب وأدق من اختبار الدخول فيه، ألا وهو اختبار تحقيق رُوحه، ولذلك قلت إن للعمل الشرعي عمقًا كبيرًا.

سوف نرى كيف أن مقدار وعي العامل بـ”عمق العمل الشرعي”، مؤثرٌ على تراوح سلوك العامل بين “اللطف” و”العنف“.

العَمَلُ الشَّرْعِيُّ جُزْءٌ مِنْ سِيَاقٍ أَكْبَرَ

مفهوم العملإن التحديق في العمل الشرعي –وفق ما سُقْتُه عن جوانبه ثم أهدافه ثم ظاهره وروحه– يقودنا إلى أنّ العمل الشرعي جزء من سياق أكبر، هذا السياق الأكبر يتشكل من ثلاثة أطراف، هي: الله عز وجل، والعمل الشرعي، والعامل، وينشأ بين هذه الأطراف الثلاثة علاقة يتعاقب عليها أطوارٌ عدّة، يختلف في كل طور منها إحساس “العامل” بالطرفين الآخرينِ؛ الله عز وجل، والعمل الشرعي.

مراتب العمل الشرعي

كلمتي هنا لبيان هذه الأطوار، وبيان كيف تختلف طبيعة علاقة العامل بالطرفين الآخرينِ بحسب اختلاف طور العلاقة بينهم، لنخلص من ذلك إلى معرفة من أين يتسلل العنف إلى العمل الشرعي في ممارسة العاملينَ له، أو بمعنى أدق في أي طور من أطوار العلاقة بين هذه الأطراف يحدث هذا التسلل للعنف إلى العمل الشرعي؟ وما هي مظاهره وأسبابه التي تعود لطبيعة علاقته بالعمل الشرعي؟

وعليه أقول: إذا كنا عرفنا سابقًا أن للعمل الشرعي عمقًا على دَرَجِهِ يتفاوت العاملون في استحقاقهم للكمال به، وأنه بين الدخول في الفعل والوصول لله مراتب عدة، فإننا نستطيع أن نجمل هذه المراتب في طورين، هما طور دخول العامل في العمل، وطور تخلقه بآثاره، فإذا كان الطور الأول يتسم بحداثة عهد العامل بالعمل فإن الطور الثاني يتسم بقدم عهد العامل بالعمل، بيد أنّ قصدي بـحداثة العهد وقدمه هنا، ليس كميًا يُقاس بالزمن، ولكنه كيفي يُقاس بمقدار ما يقطعه الداخل في العمل الشرعي نحو رُوحه التي سبق بيان مفرداتها، وعليه فقد يكون المرءُ قديمَ العهد بالعمل زمنًا، ولكنّه حديثُ العهد به رُوحًا، لكونه لا يحرص على التحقق بـروح العمل سلوكًا.

اختلاف مدارك العاملين

إن حضور صفات الله في وعي ووجدان العامل الداخل في العمل، يختلف عن حضور صفاته سبحانه في وعي ووجدان العامل المتخلق بالعمل سلوكًا، وكذلك صفة حضور العمل الشرعي في وعي ووجدان الداخل في العمل، تختلف عن صفة حضورها في وعي ووجدان المتخلق بالعمل سلوكًا، ولهذا الاختلاف مردوديته على سلوك العامل لطفًا وعنفًا، وأكرر إن اختلاف حضور صفات الله وصفة العمل الشرعي في وعي العامل له أثر على سلوكه لطفًا وعنفًا.

سيكون عملنا هو تجلية هذا الاختلاف أو التطور في حضور صفات الله وصفة العمل داخل وعي العامل، وما يترتب عليه من سلوك عند العامل لطفًا وعنفًا، وذلك من خلال التوقف مع صور العلاقة بين العامل وطرفي العلاقة الآخرين؛ الله عز وجل، والعمل الشرعي، ومن ثم نكون إزاء صورتين، هما العلاقة بين الله والعامل، والعلاقة بين العمل الشرعي والعامل.

كيف يتسلل العنف إلى العمل الشرعي؟

مفهوم العملإن تعمُّق هذا الاختلاف أو التطور في طبيعة العلاقة بين العامل والله من جهة، وبين العامل والعمل الشرعي من جهة أخرى، يكشف لنا لماذا يكون للعمل الشرعي وَقْعَانِ في وجدان الطائعينَ، فيكون عند بعضهم سبيلًا ومظهرًا للعنف، وعند آخرين سبب لطفٍ.

إن كشف هذه النقطة وتجليتها –فضلًا عما يحققه من بيان كيفية تطرق العنف إلى العمل الشرعي– له منافع عدة أخرى، منها: رفع حالة النزاع بين الفريقينِ من الطائعينَ إزاء العمل، وذلك بكشف مواقعهم من العمل الشرعي وفق العمق المسوق عنه آنفًا، والتطور في العلاقة بين أطراف سياقه الأكبر الذي سيُساق لاحقًا.

منها أيضًا تحرير العمل الشرعي من الإرهاق والإفقار الذي يصيبه في وعي ووجدان الكثيرين، الذين يغفلون عن قيمه الأخلاقية وذلك بحصره في رسومه الشكلية، ذلك الحصر الذي يُخفِّض طاقته الروحية.

منها كذلك معرفة السبيل لعلاج تلك الحالة المرضية التي يكون العمل الشرعي فيها سبيلًا للعنف.

صور هذه العلاقة بين العامل وطرفَيْ العلاقة الآخرينِ وما يترتب عليها من عنف ولطف، هي المزمع عرضها قادمًا.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

الجزء الرابع من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض