مقالاتقضايا شبابية - مقالات

مدرس العلوم وفقدان السيطرة

حملة أغضبني

رد مدرس كلية العلوم على حملة الكراهية الموجهة إليه من الطلاب: “كانت متوقعة”، فالرجل لم يشعر بأي نوع من الدهشة أو الحزن أنه مكروه إلى هذه الدرجة، بل رأى أن هذه الكراهية هي عقاب له على جديته واجتهاده وإخلاصه في عمله، وأنه لا يتهاون مع غير الملتزمين بالحضور والمذاكرة.

والموقف بوجهيه المتناقضين يطلعنا على الكثير من خفايا النفس البشرية، فالإنسان لا يفعل الشر معتقدا أنه شر، بل يزين له الشيطان سوء عمله بطرق كثيرة، ويحكي نجيب محفوظ في رواية الكرنك عن رئيس السجن الحربي حمزة البسيوني المشهور بتعذيب المساجين بأنه لم يكن يرى نفسه سوى رجل يؤدي عمله بإخلاص وتفان.

هنالك فارق بين التسلط وتطبيق القانون

المشكلة أن كثيرا من هؤلاء المتسلطين قد يُسقط كل عقده النفسية الدفينة على من هم أقل وأضعف منه، وفاته أن الإنسان قد يطبق القانون بحذافيره ويبقى مع ذلك محبوبا من طلابه أو من معظم طلابه إذا رأوا في هذه الشدة من جانب الأستاذ في مصلحتهم النهائية، وهل كان الدكتور محمد غنيم متهاونا مع أحد من مرؤوسيه مثلا؟

بل كان معروفا بأنه يعاقب من يتأخر عن الحضور في العمل خمس دقائق فقط، والويل كل الويل لمن يشعل سيجارة في مركز الكلى ناهيك عن أن يلقيها على الأرض بعد انطفائها! ولكنه كان يكافئ المحسن بقدر ما يعاقب المسيء، وكان حرصه أولا وأخيرا على مصلحة المريض الذي يتلقى الخدمة ولا يفعل ذلك زلفى ونفاقا لمن هم أعلى منه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولا يوجد ما هو أسوأ من الأستاذ الذي يقسو على طلابه باسم مصلحتهم التي يجهلونها، لأن الطالب يعرف جيدا الأستاذ الذي يتصرف حرصا على المصلحة ويحترمه من الأستاذ الذي يتصرف انطلاقا من أحقاد وعقد شخصية ويحتقره، المشكلة أن مثل هذا الأستاذ قد يجعل الطالب يكره مادة يحبها وقد يرغب في التخصص فيها بقية حياته ولكن يزهد فيها بسبب هذا الأستاذ الجهول.

لا أتعس من الإنسان الذي خرجت الأمور من تحت سيطرته

نجد أن من أكثر الأمور التي تحزن الإنسان في حياته هو أن يجد الأمور قد خرجت من تحت سيطرته، وأنه أصبح مفعولا به لا فاعلا، ومثال ذلك.. قد يرغب الإنسان في إنقاص وزنه بشدة وحينما ينجح يشعر بسعادة طاغية وثقة رهيبة في النفس لأنه استطاع أن يسيطر وأن يتحكم في وزنه وفقا لإرادته ومشيئته، وتحدث له مشاعر معاكسة تماما حينما ينقص وزنه أو يزيد دون أن يرغب في ذلك.

ولعل فرح الإنسان بالعلم يرجع إلى ذلك الشعور بأنه يمنحنا القدرة على السيطرة على الأشياء التي نجهلها، ولا يوجد في الدنيا أسعد من الإنسان الذي يستطيع أن يسيطر على مشاكل كثيرة بعلمه وخبرته في حلولها.

وسعادة الإنسان بالسلطة وسعيه لها يرجع إلى ذلك الشعور، وهو الرغبة في السيطرة على الأمور، وتكتمل تلك السعادة بالقدرة الفعلية على تحقيق ذلك، أما العاجز الذي يتولى السلطة والمسؤولية في أي منصب مهما كان بسيطا فإنه يتحول إلى مصيبة على رأسه وقد يدمر حياته تدميرا.

ومحبة الإنسان للنقود تنبع من نفس الرغبة، وهي أنها تساعده في السيطرة على الأمور وليست هدفا في حد ذاتها، ولذلك قد لا يحتاج من هو في السلطة إلى المال لأنه بسلطته يستطيع أن يسيطر على الأمور بدون مال.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولذلك أسوأ ما في المخدرات وكل المواد الإدمانية الأخرى أنها تفقدك السيطرة على نفسك، وبالتالي تقذف بك في هاوية سحيقة من التعاسة ضد الهدف الذي كنت تتعاطاها من أجله، وهي أن تصل بك إلى ذروة السعادة.

أي أن سعادة الإنسان في هذه الحياة مرتبطة بعدد الأشياء التي يسيطر عليها ويتحكم فيها بكفاءة ومهارة، فالذي يسيطر على وقته سعيد، والذي يسيطر على جسده سعيد، والذي يسيطر على عملائه في العمل ويشعر بأنهم يثقون به ثقة عمياء هو شخص سعيد، والشخص الذي يسيطر على انفعالاته ويسيطر على كلماته التي ينطق بها هو شخص سعيد.

باختصار.. لا أتعس من الإنسان الذي خرجت الأمور من تحت سيطرته وأصبح كالريشة في مهب الريح توجهه أينما شاءت وكيفما شاءت.

اقرأ أيضاً:

كل ما يحيا يسعى نحو السيادة

نخبة المفكرين الجهاز المناعي للمجتمع

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الدوائر المُضيئة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. محمد فهمي

طبيب أمراض باطنة عامة

مقالات ذات صلة