مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

ما العقلُ؟ – الجزء الأول

في دردشتنا السابقة بالعقل أبدأُ حدثتك –صديقي القارئ صديقتي القارئة– عن أهمية العقل في نهضة الأفراد والمجتمع على السواء. وفي دردشتنا الحالية نحاول معا أن نجدَ إجابة بسيطة تقارب –مجرد مقاربة– السؤالَ الكبيرَ: ما العقل؟

لكي نتعرف معنى العقل علينا أن نتحدث أولا عن مصادر المعرفة التي حصلناها منذ ولادتنا ومجيئنا إلى الحياة:

مصادر المعرفة: أولية وثانوية

لو سألت نفسك: من أين أتتْ كلُ هذه المعارف التي في رأسي؟

ولو تأملت في نفسك ستجد أن كل ما لديك من معلومات إنما يرجع إلى نوعين رئيسين من المصادر التي تزودك بهذه المعارف التي يمتلأ بها رأسُك: مصادر معرفة أولية ومصادر معرفة ثانوية. مصادر المعرفة الأولية تسمى بالأولية لأنها أول المعارف ولا شيء يسبقها أو يوجد قبلها فهي أوائل لما يأتي بعدها. والمعرفة الأولية يستمدها رأسُك من قسمين:

قسما مصادر المعرفة الأولية

  1. أوائل الحس.
  2. بديهيات العقل.

أما أوائل الحس، أي المعرفة التي نستمدها من الحواس الخمس: السمع، والبصر، والشم، والتذوق، واللمس. والمعرفة الحسية هي ما عرفته بحسك المؤدي إلى النفس بتوسط العقل، كمعرفتك أن النار حارة والثلج بارد، والحرير ناعم، والخيش خشن، ورائحة عطرك المفضل جميلة، ورائحة العفونة منفرة، وطعم الطعمية لا يشبه طعم الكباب.. إلخ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وأما المعرفة العقلية فهي ما عرفته بفطرتك وبأول عقلك، مثل معرفتك بأن الكل أكبر من جزئه (ذراعك ليس بأكبر من جسمك)، وأن أباك أكبر منك (فلا يمكنك ما حييت أن تدّعي أنك أكبر من أبيك سنا!)، وأن نصفي العدد مساويان لجميعه (لا تستطيع أن تقول أن نصفي الأربعة ثلاثة، بل حتما ستقول: اثنان + اثنان= أربعة)، وأن كون الواحد في مكانيين مختلفين في وقت واحد مستحيل (يقول بعضُ الصوفية الطيبين إن وليَّ اللهِ الفلاني، الذي كان يجلس مع أصحابه في بغداد، قد شاهده الناسُ في مكة يؤدي فريضةَ الحج. فهو في نفس الوقت موجود في مكانين مختلفين، موجود في بغداد وموجود في مكة!).. إلخ

وأقول لك يُسمى هذا النوع من المعرفة بديهيات العقل.

المعرفة الأولية لا تحتاج إلى برهان

هذان القسمان من المعرفة الأولية: أوائل الحس وبديهيات العقل، لا يحتاجان في إثبات صحتهما إلى دليل أو برهان، لماذا؟

لأن صحة العلم وصحة المعرفة بهذه الأشياء ضرورية في كل نفس وليس في بعض النفوس دون بعض، فلن يطالبك أحدٌ بأن تقيم دليلا على برودةَ البطيخ المثلج الذي أخرجته حالا من فريزر ثلاجتك، أو أن تقيم الحجة المنطقية على حرارة الشاي المغلي! ولن يطالبك أحد بالبرهنة على أن حبة التفاح أصغر من شجرة التفاح نفسها، ولن يجادلك أحد في أنك ترى لون الجرجير أخضر ولون الطماطم أحمر.

إذن هذه المعرفة الأولية هي التي تقوم عليها أو تُستمد منها البراهينُ في الاستدلال العقلي المنطقي، ولا يصح شيء إلا بالرد إليها، فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيحٌ متيقنٌ ومعقول، وما لم تشهد له بالصحة فهو باطلٌ حتما لأنه غير معقول.

خصائص المعرفة الأولية

والآن دعنا نلخصُ خصائصَ المعرفة الأولية: أوائل الحس وبديهيات العقل، على النحو الآتي:

أولا: أنها أولية، أي أول وأصل لجميع المعارف الأخرى.

ثانيًا: يجب أن يُستمد منها الصدقُ في مقدمات الاستدلال العقلي.

ثالثا: هذه المعرفة لا سبب لوجودها إلا سلامة الفطرة واعتدال المزاج (يتعطل عملُها في حالات الجنون والمرض الذي يخل بالمزاج).

رابعا: هذا النوع يتعلق بإدراك المعاني الكلية وليس الأجزاء أو الجزئيات (الكليات: التي تنطبق على جميع الأفراد وليس على فرد دون فرد. الجزئيات تنطبق على فرد بعينه ولا تنطبق على كل الأفراد).

خامسا: هذه المعرفة لا يختلف حولها اثنان ولا ينتطح بشأنها عنزان (فهي واحدة ومشتركة بين جميع البشر).

أعرف أنك قاربت أن تعرف معنى العقل الآن:

العقل هو: “تلك المعرفةُ الكليةُ، التي نستمدها من مصادر المعرفة الأولية: أوائل الحس وبديهيات العقل، والتي يشترك فيها جميعُ بني الإنسان”.

والسؤال الآن وهل توجد معارف أخرى ثانوية، أو تالية، للمعارف الأولية، وتدخل أيضا في نطاق المعارف الكلية العقلية؟

هذا هو موضوع دردشتنا القادمة بإذن الله.

اقرأ أيضاً:

الأسئلة وطلب المعرفة هو نداء الفطرة السليمة 

دور البديهيات العقلية

ما بين العقل والإرادة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج