ما العقل؟ – الجزء الثاني
في دردشتنا السابقة “ما العقل؟ (1)” حدثتُك -صديقي القارئ صديقتي القارئة- عن مصادر المعرفة التي تحويها رؤوسنا من أين جاءتنا وما مصدرها، فتحدثنا عن مصادر المعرفة الأولية وأنها تنقسم إلى: أوائل الحس وبديهيات العقل. وحاولنا مقاربةَ معنى العقل. وختمنا الدردشة بسؤال: هل توجد معارف أخرى تدخل أيضا في نطاق المعارف الكلية العقلية؟
لو أنك واصلت البحث في نفسك ستجيب نفسك: بالطبع توجد أنواع أخرى؛ بما أن هذه أوائل المعرفة فلا بد من وجود مصادر أخرى يمكن أن تُبنى على المعرفة الأولية. سأقول لك أحسنت! ودعنا نسمي المعرفة الأخرى هذه بمصادر معرفة تالية. أي مصادر تلي مصادر المعرفة الأولية:
مصادر المعرفة التالية
ترجع مصادرُ المعرفةِ التالية إلى:
- برهان راجع من قريب أو من بعيد إلى شهادة الحواس.
- برهان راجع من قريب أو من بعيد إلى أول العقل.
- البرهان العقلي
ما معنى مقدمات راجعة إلى أوائل الحس والعقل؟ عندما نقول:
- كل إنسان يموت. (تسمى هذه مقدمة)
- محمد إنسان. (تسمى هذه مقدمة)
- إذن محمد يموت. (تسمى هذه نتيجة، لأنها نتجت عن المقدمتين السابقتين)
لو فحصت المقدمة الأولى: “كل إنسان يموت” ستجد أنها راجعة إلى أوائل الحس (شاهدنا بأعيننا أن الناس يموتون)، وعائدة أيضا إلى أوائل العقل (توصلنا إلى معرفة كلية عبرنا عنها بكلمة “كل”). ولو تأملت المقدمة الثانية: “محمد إنسان” ستجد أنها راجعة إلى أوائل الحس (شاهدنا بأعيننا شخصا يسمى محمد)، وعائدة أيضا إلى أوائل العقل (توصلنا بعقلنا إلى معرفة كلية أو إلى كلي وعبرنا عن هذا الكلي بكلمة “إنسان”، والكلي ينطبق على أفراد كثيرين، فكلمة إنسان تنطبق على زيد وعبيد وعمرو وخالد إلخ).
ومن هاتين المقدمتين، العائدتين إلى أوائل الحس والعقل، برهنا على النتيجة التي استخلصناها منهما، وتوصلنا إلى حكم قطعي يقيني: “محمد يموت”. ولماذا نصف هذا الحكم بأنه برهان؟ أو لماذا نصف تلك النتيجة بأنها قطعية يقينية؟
لعلي أسمعك تقول: لأن برهانها راجع إلى أوائل الحس والعقل. وهذا ما يسميه الفلاسفةُ والمناطقةُ بالبرهان المنطقي؛ أي تلك النتيجة اليقينية المستنبطة من مقدمات يقينية. ومتى تكون المقدمات يقينية؟ عندما تعود إلى أوائل الحس والعقل أي إلى المعرفة الأولية. وهكذا تنشأ المعرفة التالية المبنية على المعرفة الأولية، ويكون صدقُها تاليا لصدق المعرفة الأولية.
المعرفة التالية: علم أصول الدين، وعلم أصول الشريعة، والعلوم الأخرى
ففي هذا النوع من المعرفة -أعني المعرفة التالية- تدخل الأصولُ الكبرى للعقيدة، فندرك أن: لنا خالقا واحدا أولا، لم يزل، وبها عرفنا صدقَ المرسلين، وصحةَ بعث محمد (ص).
وفي هذا القسم -المعرفة التالية- تدخل الأصولُ الكبرى للشريعة، لأنه إذا صحَ التوحيدُ وصحتِ النبوةُ وصحَ وجوبُ الائتمار لها، وصحتِ الأوامرُ والنواهي، وجب اعتقادُ صحتها والائتمارُ لها.
وفي هذا الصنف أيضا -المعرفة التالية- يدخل: “صحةُ الكلامِ في علوم الطبيعة، وقوانينُ الطب، والحسابُ والهندسة، وغيرُها من العلوم المختلفة”.
هكذا يجب أن تقومَ العلومُ -تماما كما يجب أن تقومَ أصولُ العقيدة والشريعة- على مقدمات راجعة إلى أوائل العقل والحس. والعلم بهذه الأمور كلها ليس أوليا ولا فطريا، وإنما يعتمد على مقدمات أولية ضرورية لينتج لنا علما ضروريا.
ما الذي يضمن صدق النتائج في البرهان؟
النتائج تكون مستخلصةً من مقدمات يقينية، لأنها ترجع إلى أوائل الحس والعقل، والتي من اجتماعها سوف تُنْتِجُ بالضرورة نتائجَ صادقةً أبدًا (بالإضافة إلى تفطن الأخطاء المنطقية في نظم البراهين) بردها إلى هذه الأوائل.
وهذه الطرق في المعرفة هي وسيلتنا الوحيدة للعلم فلا يُعلمُ شيءٌ أصلا، بوجهٍ من الوجوه، من غير هذين الطريقين: فمَنْ لمْ يصلْ منهما، فهو مقلدٌ مدعٍ وليس عالما وإن وافق اعتقادُه الحقَ، لكنه -ها هنا- يكون مبخوتا محظوظا!
في هذه الدردشة حاولنا مقاربة معرفة معنى العقل ومصادر المعرفة: الأولية والتالية. وفي الدردشة القادمة -بإذن الله- ندردش حول موضوع: “العقل والنص”. ونسأل ما علاقة العقل بالنص الديني؟
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.