العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الرابع والعشرون
المدرسة المشَّائية: (22) ابن باجّة وكتابه - تدبير المتوحد
فلسفة التوحد والاتصال: حياةٌ يدبرها العقلُ (2): التدبير والتوحد
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 23) عن مقدمة لفلسفة التوحد والاتصال عند ابن باجة (1): لغز المغارة وأسطورة الكهف. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التوحد والاتصال الباجية: التدبير والتوحد، والأفعال الإنسانية التي تصلح أن تكون موضوعًا للتدبير.
أولًا: التدبير والتوحد:
معنى التدبير
ذكرنا أن ابن باجة قد عرَّفَ لفظةَ التدبير الواردة في عنوان كتابه “تدبير المتوحد” بقوله: “التدبير: ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة”. ولذلك فالتدبير “لا يُطلق على مَنْ فعلَ فعلًا واحدًا يَقصُدُ به غايةً ما. فإنَّ منْ اعتقد في ذلك الفعل أنه واحدٌ لمْ يطلقْ عليه التدبيرَ، وأما من اعتقد فيه أنه كثيرٌ، وأخذَهُ من حيث هو ذو ترتيبٍ، سمى ذلك الترتيبَ تدبيرًا”.
أصناف التدبير:
يعددُ ابن باجة أربعةَ أنواعٍ من التدبير، ثلاثة منها غيرُ مقصودةٍ لابن باجة، وإنما قَصَدَ فقط إلى النوع الرابع والأخير من التدبير. وأنواع التدبير الأربعة هي:
تدبير الإله للعالم:
وذلك هو التدبير المطلق، وهو أشرفها لأنه إنما قيل له تدبير للشبه المظنون بينه وبين إيجاد الإله تعالى للعالم. وهذا النوع لا يقصده ابن باجة والكلام عنه “في غير هذا الموضع”، كما يقول ابن باجة.
تدبير المدينة:
التدبير إذا قيل على الإطلاق دل على تدبير المدن. وهذا النوع من التدبير قد بين أمره “أفلاطون”، في السياسة المدنية (يعني كتاب الجمهورية) وبيّنَ ما معنى الصواب منه ومن أين يلحقه الخطأ، لذلك، كما يقول ابن باجة: “فتكلفُ القول فيما قد قِيلَ فيه فأُحْكِم، فضلٌ أو جهلٌ أو شرارةٌ”. وهذه قاعدة منهجية باجية جديرة بكل اعتبار، فما فحصه وبحثه السابقون وفصَّلوا القولَ فيه لا يبحثه ابن باجة، فهو لا يقول ما قد قيل من قبل، ولا يعيد إنتاج ما قد تم إنتاجه بالفعل، فغرضه إبداعُ الجديد، لا تكرار القديم.
تدبير المنزل:
والقول في تدبير المنزل الناقص، أو المنزل المريض، بتعبير ابن باجة “قد تكلف قومٌ القولَ فيه. ومن بلغنا كتبهم في تدبير المنزل فأقاويلهم بلاغية”. “والقول في تدبير المنزل ليس له جدوى ولا هو علم”. ولو كان المنزل كاملًا فالقول فيه يلتحق بتدبير المدينة، إذ تدبير المنزل جزء من تدبير المدينة، ومن ثم فليس من قصد ابن باجة التكلم فيه.
تدبير المتوحد:
إذًا لا يقصد ابن باجة تدبيرَ الإله للعالم، ولا تدبيرَ المدينة، ولا تدبيرَ المنزل، وكلها أمور تكلم فيها الفلاسفةُ السابقون عليه، وابن باجة يريد أن يأتي بخطاب جديد فيقصد إلى تدبير المتوحد، أي تدبير الإنسان الفرد. وهذا معنى المتوحد عنده.
معنى المتوحد:
المنفرد المنعزل
أو “النابت”، بتعبير ابن باجة، (والنابت هو العشب النابت من تلقاء نفسه بين الزرع). وقد أعطاه ابن باجة معنى جديدًا فقال: “فلنخص نحن بهذا الاسم الذي يرى الرأي الصادق”، صاحب الرأي الصائب فذلك هو النابت، ومن يرون الآراء الصادقة فهم “النوابت”، سواء أكان المفرد واحدًا أم كان أكثر من واحد، “ما لم يجتمع على رأيهم أمة أو مدينة”، أي ما داموا نوابت في المدينة الناقصة. “وهؤلاء هم الذين يعنيهم الصوفيةُ بقولهم “الغرباء”، لأنهم وإن كانوا في أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، غرباء في آرائهم، فقد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخر هي لهم كالأوطان”. ونحن في هذا القول، كما يقول ابن باجة،: “نقصد تدبير هذا الإنسان المتوحد، فنقول كيف يتدبر حتى ينال أفضل وجوداته، فهذا القول (يعني كتاب تدبير المتوحد) هو للنابت المفرد، وهو كيف ينال السعادة إذا لم تكن موجودةً، أو كيف يزيل عن نفسه الأعراض التي تمنعه عن السعادة أو عن نيل ما يمكنه منها”. إن قصد ابن باجة بيان كيفية تدبير المتوحد حتى ينال أفضل وجوداته، وحتى تتحقق له السعادة وتحصّل نفسُه الخلودَ، وهذا لن يكون إلا للمتوحد على الحقيقة، أي ذلك الذي بلغ مرتبة الاتصال بالصور الروحانية (التصورات العقلية) والعقل الفعَّال.
البالغ مرتبة الاتصال بالصور الروحانية والعقل الفعَّال
ذلكم المتوحد على الحقيقة. ولبيان أمره نحتاج أن نلقي نظرة على تصنيف ابن باجة للأفعال الإنسانية.
وهذا موضوع دردشتنا القادمة بإذن الله: فلسفة التوحد والاتصال الباجية: حياةٌ يدبرُها العقلُ (3): موضوع التدبير: الأفعال الإنسانية.
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر
الجزء الرابع عشر ، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر
الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر، الجزء التاسع عشر
الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا