كادت عجلات السيارة تتخلى عن العربة ، كانت تصدر صوتا كمن ينوح من شدة الألم، وكانت صاحبتنا عند النافذة تحاول يائسة ألا تصطدم بحديد النافذة المنبثق من بين ثناياها كما الأشواك، فكأنه يخرج لها لسانه بعد كل مرة تصطدم به ساخرا أن لا مفر مني!
كان الهواء يقتحم المكان اقتحاما عنيفا إثر سرعة السائق الرهيبة، وصاحبتنا فاتحة النافذة على مصراعيها إيمانا منها أنه كلما زادت المساحة قل ضغط الهواء على وجهها.. سخيفة! نعم، ولكنها حقيقة على أي حال، كانت تتحاشى نظرات الركاب المنزعجة لها وهمهماتهم في العربة .
في غير محاولة منها أن تأخذ هي أكبر نصيب من الهواء حتى لا يطلب منها أحد أن تغلق النافذة، ولكنها حمدت الله كثيرا إذ صرف عنها ونافذتها انتباههم ذلك المنحدر الذي اجتازه السائق العجيب كما لو كان سباقا في الأولمبياد! أخذوا يناطحون السائق بالشتائم وما شابه، وانصرفت صاحبتنا عنهم ممسكة بكتفها وناظرة إلى أشواك الحديد التي كانت فاغرة لها فاهها تسخر منها! ولكن على الأقل صرف ذلك انتباههم عن النـافذة.
الطفلة الصغيرة
تبسمت صاحبتنا لنسيمات الهواء ولسان حالها يقول: “مصائب قوم عند قوم مغانم” وأكملت شرودها، وبينما هي كذلـك إذ بها ترى أشعة الشمس منعكسة في غير اتجاهها! كانت أشعة الشمس ترتد خجلى من جدائل ذهبية قد طغى لمعانها على بريق الشمس، كان ذلك على بعد بضعة أمتار منها، طفلة صغيرة لم يتجاوز طولها النصف متر، قد جدلت شعرها الحريري جديلتين تتوه فيهما العيون، وكان وسط خدودها المخملية ثغرها، وعليه ابتسامة تكاد تفوق القمر جمالا وبراءة، كانت تحمل بيدها ورقة نقدية وتضغط عليها بقوة لينة حتى لا تسقط من يدها.
كانت هي على ناصية من الشارع تريد أن تعبره، وعيناها مصوبة على ذلك الدكان الصغير على الناصية الأخرى تقلب ناظريها ما بين شتى المشتريات وتعد الثواني حتى تعبر ذلك الشق العظيم أمامها، المليء بالوحوش الكبيرة التي لم يكن لها أسنان حادة، كما اعتادت أن تخبرها صديقتها الأكبر منها ببضع سنين دراسية والتي كانت بالنسبة لتلك الصبية جميع قولها مُسلَّم به لا يجوز لأحد أن يخبرها غير ذلك!
وقفت تلك الطفلة حائرة، كلما تقدمت خطوة رجعت اثنتين، فهي لا تريد أن تلتهمها تلك الوحوش ذات الأسنان المطاطية، فقد أخبرتها صديقتها أنها إذا لمست تلك الأسنان المطاطية، ستصاب بعدوى العفاريت، وسيؤول بها الأمر أن تصبح هي أيضا وحشا يمنع الصبية من أن يصلوا إلى (عم عرفة) صاحب الدكانة المليئة بما لذ وطاب.
كانت العربة التي تستقلها صاحبتنا اقتربت كثيرا من الطفلة المسكينة، نظرت إليها الطفلة وإلى وابل الوحوش خلفها ولم تجد بُدا من أن تقبض على يديها حتى تتأكد من سلامة ورقتها النقدية وأخذت تطير عابرة الشارع بعد إحدى العربات _أو قل لو شئت الوحوش _ وجدائلها تفرق شعاع الشمس عن اليمين والشمائل، مرت كالسهم أمام عربة صاحبتنا حتى وصلت بر الأمان أمام دكانة عم عرفة، أخذت تقفز عاليا، وتعالت ضحكاتها الموسيقية عنان السماء فرحة بنصرها حتى أنست نغماتها عم عرفة أن يوبخها على صنيعها.
لا تنظر خلفك حتى تصل
أدارت صاحبتنا رأسها مسرعة لتنظر إلى باقي المشهد خلفها، لترى الصبية وهي تحمل من الحلويات ما تحمل ضاحكة، وصاحبتنا شاركتها تلك الضحكة، قد نزل وعيها عن الأمر للاوعي الخاص بها، كيف يتخلى عنها كل مرة في لحظات حرجة كهذه؟! حتى تيقظت على نظرات الركاب القاتمة نحوها، بعضهم ينظر لها نظرة الساخر، والآخر نظرة المرتاب، وهي من كل ذلك تريد أن تبتلعها الأرض، حتى جاء منقذها..
منحدر آخر دفع بالركاب لقضية السائق المتهور مرة أخرى، ما بين واعظ وآخر يشتم، وشيخ كبير يقص عليهم كيف كانت الحياة قبل اختراع العربات، وكيف كان هو تاجرا كبيرا يعبر الصحاري على ناقته، وكيف كان الحادي أفضل من جميع أجهزة التلفاز الآن، وكيف أنه يأنف من تلك العربة لولا أن تحمله الحاجة لركوبها، وصاحبتنا تنفست الصعداء، وأمسكت بكتفها مجددا إذ لم تسـلم من أشواك الحديد التي تقتنص الفرصة لتنال منها، نظرت إليها ولكن هذه المرة شاكرة، وخيالها لم تغادره تلك الطفلة التي تخطت كل أولئك الوحوش، لتصل لمبتغاها ضاحكة غير آبهة، وكيف علمتها تلك الطفلة درسا، وهي التي كانت تهرب من أقل المشاكل خائفة.
كانت صورتها وهي تقفز فرحا تقفز في عقل صاحبتنا، كيف أن لذة النصر مجبولة عليها عقولنـا، حتى أبسط الأمور، تلك الانتصارات الصغيرة التي عادة ما يهدم لذتها أولئك من يدعون أنهم ذووك، كيف أنه مهما كانت الوحوش ضارية ستتغلب عليها بسمة صادقة، وأنه ما من أحد صغيـر على القتال، حتى لو كان طولك لم يتجاوز النصف متر!
فاحمل أحلامك في يديك، واضغط عليها بقوة لينة ثم انطلق كالسهم بين الوحوش، غير آبه، ولا تنظر قط خلفك، حتى تصل..
حينها ألقِ عليهم نظراتك ساخرا حتى يموتوا بغيظهم، ثم اقفز عزيزي أمام دكانة عم عرفة حتى الصباح!