مقالاتفن وأدب - مقالات

عودة من بلاط الأمل المتكسر … بيدك أذيت نفسك!

الجو منعش هذا المساء، هواء بارد لطيف يغسل روحك ذاتها، يحيي الذكريات المدفونة في دهاليز نفسك العجوز بعمر خبراتك، وما أكثر ما رأيت في حياة قصيرة بحساب السنوات.

عجوز كتاريخ الأرض نفسها، تكمن في داخل نفسك قصة الإنسانية كلها، بصراعاتها وأحلامها الموؤودة، بتطلعاتها الغضة وأفراحها الراقصة.

عجوز كغبار كوني ناتج عن تصادم نجمين عمرهما أقدم من الزمن ذاته.

منهكة حتى النخاع، منهكة كهذين النجمين بعد تصادمهما الذي استغرق دهورا كاملة، واستهلك طاقتيهما بالكامل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن لا بأس! كل هذا يمكن أن يغسله هواء الليل المنعش الذي يداعب فؤادك الآن.

لا بأس.

شهر يوليو قلب الصيف المخلص، ما أعجبها من مفاجأة أن تجدي الهواء منعشا والجو رائع! كنت قلقة قبل نزولك من المنزل وعند اتفاقك على الموعد، حتى فكرت في إلغاء اللقاء المهم بسبب الطقس، لكن ها هي توقعاتك المسبقة تتكسر مرة أخرى على صخور الواقع، كما تكسرت كثيرا من قبل، هذه المرة فقط لم ينتج عن تكسرها شظايا حادة تدمي قدميك الحافيتين على بلاط الأمل، مثلما فعلَت دائمًا، بل حتى بلاط الأمل نفسه كسرته هذه الشظايا المدببة كرصاص قناص محترف!

هذه المرة تكسرت توقعاتك كتكسر الموج على الشاطئ في يوم هادئ، تكسر جميل تتمنى أن يستمر للأبد.

لكن هل فعلا كان الطقس هو سبب رغبتك في إلغاء اللقاء؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تواجهين نفسك العارية فتكتشفين أنها كانت حجة واهية كبيت العنكبوت.

ما دفعك للتهرب ومحاولة الإلغاء هو كون اللقاء يمثل العودة إلى بلاط الأمل المحطم وشظايا التوقعات المدمية لقدميك.

 

تتذكرين القصة كاملة كأنها حدثت للتو.

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كانت التوقعات تبلغ عنان السماء أثناء فترة التعارف والخطبة، فارس أبيض قادم من أجمل أودية أحلامك الزمردية.

عذب الكلام، وسيم الهيئة، مملوء الجيوب بالذهب، وظيفة مرموقة، وعائلة كبيرة؛ الحياة تبتسم أحيانا، وكانت بسمتها هذه المرة كافية لنسيان كل ما ذقتِه فيها من مرارة.

 

النسيان، كان أجمل ما في الأمر، وأقبح ما فيه! نسيتِ نفسك وعقلك وتفكيرك، أسرَك بالكامل، جذب ترددات روحك وعقلك، حجب روحك عن روحك، وامتص ذاتك كثقب أسود مهول.

 

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سأعيش له للأبد، محبة وخادمة وصديقة، سأضحي بحياتي كي لا تجرحه نسمة هواء حانية!

 

زفاف رقيق راق، شهر عسل يليق بأحلام المراهقات عن الرومانسية الخالصة كعسل النحل الأبيض النقي.

 

كل هذا مر سريعا، وفجأة وجدتِ قدميك تدميان أنهارا على الشظايا المتكسرة.

 

لم تجربي يوما شعور الدهس تحت قطارِ سريع، لكنك بتِ تعرفين كيف هو هذا الشعور! قطار سريع ثقيل كالأبدية دهس روحك فجأة من حيث لا تتوقعين.

 

أثر اللطمة الحامية ما زلت تشعرين به على خدك الأيمن، كانت يده غليظة كجنازير الدبابات، ومع أول خلاف اختبرت شعور جنازير الدبابات حينما تهوي على الخد مرات متعددة.

 

الملاك الطاهر، الفارس الوسيم، تحول للشيطان نفسه! تتذكرين قسمات وجهه الدميمة لحظتها، ما أقبحها من ملامح، ويا لحقارتهما هاتان العينان، منذ متى كان أنفه حادا كمثقاب للأرواح؟ منذ متى كانت أذناه طويلتين كقرون إبليس؟

 

الآن تكتشفين، والآن تفهمين، والآن تندمين!

تندمين على النسيان، وتطلبين النسيان!

 

أحداث سوداء كقعر جهنم الممتلئة بصرخات الزناة والقوادين، كأودية الجحيم التي ترتوي بصديد الشياطين، مرت كأنها الدهر، شهران من حياتك فقط لكنهما كانا دهرا أسودا طويلا.

 

في هذه الفترة تحول عالمك كله إلى شظايا بلورية متساقطة من السماء كحجارةٍ من سجيل، عاصفة لا تنطفئ نيرانها، ولا يوجد ما تستظلين به تحتها، مطر من الرصاص، من القنابل، من المسوخ السبعية.

 

جاء قرار الانفصال سهلا وسريعا من أهلك عندما عرفوا الأمر، تتذكرين ثبات والدك وهدوءه، كأنه بطل من أبطال الأساطير الإغريقية جاء لينقذك، كان يعرف كل ما يجب عمله، تشبثتِ فقط بعنقه واستسلمتِ تماما.

 

آفة حارتنا النسيان!

تتذكرين خطيئتك الأولى، النسيان، نسيتِ عقلك عندما شاهدتيه، نسيتِ كل ما تربيت عليه، كل ما سمعتيه من عظات، وما وقر في ضميرك من تنبهات.

 

ما أقبح النسيان!

خطيئة آدم الأولى التي عرّت سوأته، خطيئتك أنت الأبدية، نسيتِ نصائح أبيك، كم حذّرك، كم قام بدور عقلك الذي تاه وسط مغامرتك المتسرعة، وحجبه خمار مشاعرك المتراقصة كألسنة اللهب.

 

الآن تتذكرين نصائحه، أخبرك كل شيء كأنّه عرّاف يقرأ المستقبل!

 

أي بنية، إنه مغرور لا يرى إلا نفسه المقدسة، لن يراك إلا عندما يطلب إشباع نفسه، بعدها لا وجود لك!

أي بنية، إنه مغرور لن يرى في نفسه نقيصة، لن يسمع لك نصيحة!

أي بنية، إن الغرور منبت الخبائث، ومَولِد الكبائر، ومعراج الكبر والغضب، لن يراك حين يغضب، لن يرى إلا الثأر لفرعونه المستكبر!

أي بنية، إن الغرور خطيئة إبليس اللعين!

أي بنية، تعقلي!

 

الهواء منعش هذا المساء، يمسح دموعك المتساقطة كحبات اللؤلؤ من عقد منثور، متتالية مستمرة يجذب بعضها بعضًا، تحاولين منعها فتزداد انهمارًا.

الهواء منعش هذا المساء، يحاول أن يصلح ما تلف من روحك تلفًا تظنينه أبديًا، يحاول أن يغسل قلبك المهزوم الململم لفلول مشاعره المغدور بها، المُمَثّل بها على صليب الخيانة.

 

– لقد جاء.

قالتها أمك الجالسة جوارك.

ترفعين طرفي عينيك بخوف، في المرة الأولى كان الحياء يثقلهما، هذه المرة يدميهما الرعب، لا تكن مثله! أرجوك!

 

جاء العريس الجديد، نظرتِ له بتوتر شديد، قلبكِ يتسارع كقرع الطبول، يضطرب كمحرك بخار يشتعل في جوفه الفحم، إنه لا يشبهه في شيء، يا إله السماوات اجعل هذه بشارة خير.

 

– مرحبا.

يبدو حييًا، يبدو طيبًا.

لكن لا، هذه المرة لن تنسين، هذه المرة عقلك متيقظ كنوبة حراسة ليلة المعركة!

 

لا تخدعنكِ المظاهر الوديعة والوعود البراقة، ستختبرينه، ستنقبين عن بؤرة شعوره، ستخوضين رحلات استكشافية في غابات تفكيره، ستفتشين عن رؤيته لذاته وللعالم، ستراقبين تعامله مع من هو أضعف منه، ستحللين طموحاته هل تتمحور حول ذاته فقط أم يسعى لإسعاد الآخرين ويتلمس الخير؟

 

أبدا لن تنسَي، لقد استتب المُلك للحاكم الجديد، وانصاعت له سائر مقاطعات النفس، وقدّمت الرعايا بيعة الولاء، اليوم يعتلي عقلك عرش نفسك ملكًا متوجًا ويمسك بزمامها، وتستسلم له فلول النزوات، اليوم تستقر المملكة بعد عناءٍ طويل طويل، اليوم يوم عيد لروحك.

 

ابتسمتِ لهذا الخاطر.

رددتِ عليه:

-مرحبًا.

 

فلتهدني يا إله السماوات.

 

 

اقرأ أيضا :

قواعد فى الحب

حب عاقل ينعش صاحبه.. لما لا نحاول أن نرتقي بقيمة الحب

الحب في عصر ما بعد الحداثة، من المادية إلى اللامعنى

أحمد عزت هلال

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا

مقالات ذات صلة