مقالات

عن صُحبة الأغبياء!

مشكلة متعددة الأبعاد يثيرها تقرير طبي (قديم نسبيًا) عن ظروف العمل مع الأغبياء، وكيف أنهم يمكن أن يشكلوا خطرًا على حياة الآخرين، فمن جهة لا يوجد تعريف كافٍ ووافٍ وواضح ومحدد للغباء،

فقد أتهمك أو تتهمني بالغباء استنادًا إلى القناعات الفكرية والتكوين الثقافي والبيئي، ومن جهة ثانية لا يقتصر الاصطدام بالأغبياء (لا سيما في الوطن العربي) على مجال العمل فقط،

بل قد يكون أشد وطأة في متابعاتك لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أو في حياتك اليومية وتعاملاتك مع الآخرين في الشوارع والمؤسسات وغيرها، ومن جهة ثالثة لا يُدرك الغبي أنه غبي ولو توافر أمامه وأمامك ألف دليل، بل وقد يتهمك أنت بالغباء إن حاولت مواجهته أو حتى توجيهه!

العمل مع الأغبياء يزيد من احتمال التعرض لجلطات القلب

قوانين الغباء البشريفي دراسة أجريت بالمركز الطبي بجامعة ليندبيرج في السويد Sweden’s Lindbergh University Medical Center سنة 2002، اتضح أن الأغبياء –إن كانوا يشاركونك العمل– يشكلون خطرًا بالغًا على حياتك،

شأنهم في ذلك شأن كافة الملوثات الغذائية والبيئية، فالإجهاد هو أحد الأسباب الرئيسة للإصابة بالنوبات القلبية، والعمل مع الأغبياء بشكلٍ يومي يمثل واحدًا من أخطر أشكال الإجهاد، لأنه يُضاعف أعباء الشخص مرتين أو ثلاثة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تشير الدكتورة «داجمار أندرسون» Dagmar Andersson –التي أشرفت على الدراسة– إلى أن فريقها البحثي قد أخضع للفحص خمسمائة مريض بالنوبات القلبية للوقوف على أسباب إصابتهم. وقد أصابت الدهشة أعضاء الفريق حين وجدوا أن 62% من هؤلاء المرضى ليس لديهم أي نوع من العوامل الجسدية للإصابة بالمرض!

وبسؤالهم عن عاداتهم الحياتية، أجابوا جميعًا بأنهم يعملون مع أشخاص أغبياء، وأن الإصابة فاجأت أكثرهم بعد أقل من 12 ساعة من المواجهة مع أحد هؤلاء الحمقى!

أضافت أندرسون: «يمكنك الإقلال من التدخين أو الإقلاع عنه، ويمكنك تحسين نظامك الغذائي، لكن معظم الناس لا يستطيعون مواجهة الغباء، إذ يشعرون أنه لا يوجد شيء يمكنهم فعله حياله، لذا تتراكم إحباطاتهم حتى تنفجر في النهاية»!

ما هو الغباء؟

يمكن وصف الغباء عمومًا بأنه نقصٌ في الذكاء أو الفهم أو القدرة على التفكير، وقد يكون هذا النقص موروثًا أو فطريًا، وقد يكون مُكتسبًا من خلال البيئة ومُعززًا بعدة عوامل، كالتعليم والنشأة الاجتماعية وغيرها، ولذا يُمكننا التحدث عن غباء عقلي، وغباء اجتماعي، وغباء عاطفي، إلخ.

ويرجع أصل كلمة «غبي» في العربية إلى الفعل «غَبِيَ»؛ يُقال غَبِيَ الشيءَ وغَبِيَ عنه غَبًا وغباوَةً، أي لم يفطن إليه، وغَبِيَ الأَمرُ عني، أي خفي فلمْ أَعرفه، ويقال: فلان ذو غَباوَةٍ أي تَخْفى عليه الأُمور.

أما في الإنجليزية فترجع كلمة Stupid (كاسم أو صفة) إلى الفعل اللاتيني Stupere، بمعنى أن يكون المرء مخدرًا Numb أو مذهولًا Astonished. ووفقًا لقاموس «ميريام ويبستر» Merriam-Webster، ظهرت كلمة Stupid في الإنجليزية سنة 1541، ومنذ ذلك الحين، تم استخدامها إلى جانب مرادفات مثل(Dumb, Moron, Idiot, Fool)، كتعبيرات مُحقرة للأفعال السيئة، سواء أكانت مقصودة أو عرضية، الناجمة عن نقص القدرات العقلية.

صفات الشخص الغبيقوانين الغباء البشري

من جهة أخرى، وفي دراسة رمزية عن الشخصيات المختلفة، ومنها شخصية «الرجل الغبي» The Stupid Man (أو المرأة الغبية)، منسوبة إلى الفيلسوف اليوناني «ثيوفراستوس» Theophrastus (حوالي 371 – 287 قبل الميلاد)، وُصف الغباء بأنه بطءٌ عقلي في الكلام أو الفعل، مصحوبٌ ببلادةٍ في الإحساس أو الشعور بشكلٍ مُزعج ومثير للسُخط.

وفي كتابه «مقدمة قصيرة لتاريخ الغباء»A Short Introduction to the History of Stupidity (1932)، يُحذر الفيلسوف والكاتب الأمريكي «والتر بيتكين» Walter B. Pitkin (1878 – 1952) من التأثير المُدمر للأغبياء على الآخرين، مؤكدًا أن الغباء هو الشر الاجتماعي الأسمى،

وتلك نتيجة لازمة عن ثلاث مقدمات صادقة، الأولى أن الأغبياء يُمثلون فيلقًا كبيرًا في المجتمع من حيث العدد، والثانية أن أغلب الأعمال السياسية والدبلوماسية والمؤسسية والاقتصادية في أيدي أغبياء بدرجات متفاوتة، والثالثة أن القدرات العالية غالبًا ما ترتبط بدرجة خطيرة من الغباء.

الغباء عدو أكثر خطورة من الشر

من جانبه، ذهب الفيلسوف وعالم اللاهوت الألماني المناهض للنازية «ديتريش بونهوفر» Dietrich Bonhoeffer (1906 – 1945) إلى أن الأغبياء أشد خطورة من الأشرار، ذلك أننا نستطيع التصدي للأشرار ومحاربتهم، لكننا نغدو عُزلًا وبلا حيلة في مواجهة الأغبياء!

عاش «بونهوفر» فترة عصيبة من فترات التاريخ الألماني، تلك التي هيمنت فيها النازية، واضطربت الأوضاع الاجتماعية، وراح الغوغاء يقذفون نوافذ بيوت الأبرياء ومتاجرهم بالحجارة، وتعرض النساء والأطفال للإذلال الوحشي في العراء.

وقتئذ بدأ القس الشاب في انتقاد هذه الأوضاع وفضح فظائع النازية علنًا، وبعد سنوات فشل خلالها في تغيير أفكار الناس، تم الزج به في السجن، ما سمح له بالتفكير الهادئ في كيفية تحول بلده من بلدٍ للشعراء والمفكرين والعلماء، إلى بلد تُهيمن عليه مجموعة من الجبناء والمحتالين والمجرمين.

وفي النهاية، خلص إلى أن جذر المشكلة ليس الخُبث أو الشر، بل الغباء! الغباء عدوٌ أكثر خطورة وأكثر تهديدًا للخير من الشر، لأن بإمكاننا أن نحتج على الشر، وأن نكشفه ونمنعه باستخدام القوة، لكننا نقف عاجزين أمام الغباء، فلا الاحتجاجات يمكن أن تُجدي نفعًا، ولا استخدام القوة يمكن أن يُحقق أية نتيجة!

اقرأ أيضاً:

كيف يكون لكل شخص الذكاء الخاص به؟

الذكاء الاصطناعي والعقل البشري

بطون تكاد تنفجر من الجهل!

كيف نتغلب على الغباء؟

على العكس، يشعر الغبي غالبًا بالرضا عن نفسه، وهو سريع الغضب وشرس إزاء من يُخالفونه الرأي أو يُميطون اللثام عن غبائه، لذا ينبغي توخي الحذر عند التعامل مع شخص غبي أكثر من التعامل مع شخص خبيث أو شرير!

ولو أردنا أن نعرف كيف يمكن أن نتغلب على الغباء، فعلينا أن نسعى لفهم طبيعته، فالغباء في جوهره ليس عيبًا فكريًا بل هو عيبٌ أخلاقي.

هناك أناس يتمتعون بالمرونة الفكرية بشكل ملحوظ ولكنهم أغبياء، وهناك آخرون مملون فكريًا ولكنهم ليسوا أغبياء، الانطباع الذي يكتسبه المرء حين يتأمل تاريخ البشر هو أن الغباء مرتبط لدى الناس غالبًا بالقهر وتسلط الأنظمة الحاكمة،

كما لو كان هذا قانونًا اجتماعيًا، فلا يتبدى الأمر وكأن القدرات الفكرية تفشل فجأة، بل نستطيع القول إنه في ظل التأثير الساحق للقوة المُهيمنة يُحرم البشر من استقلاليتهم العقلية، ويتخلون بشكل أو بآخر عن الوعي الذي يُميزهم كبشر!

القوة التدميرية للغباء البشري

قوانين الغباء البشري

من أشهر من درسوا الغباء أيضًا المؤرخ الاقتصادي الإيطالي «كارلو سيبولا» Carlo M. Cipolla (1922 – 2000)، ففيما بين عامي 1973 – 1976، كتب «سيبولا» مقالين غير تقليديين تم تداولهما بالإنجليزية بين أصدقائه، ثم قام بنشرهما بالإيطالية سنة 1988 تحت عنوان «إلى الأمام، ولكن ليس سريعًا جدًا»، Forward… But Not Too Fast أو «سعيد، ولكن ليس كثيرًا» Happy… But Not Too Much. ناقش في المقال الأول دور التوابل (وخصوصًا الفلفل الأسود) في التنمية الاقتصادية في العصور الوسطى، أما المقال الثاني فقد طرح فيه ما أسماه «القوانين الأساسية للغباء البشري» The Basic Laws of Human Stupidity، ومُجمل رؤيته في هذا المقال أن الأغبياء كمجموعات عمل أقوى بكثير من المنظمات الإرهابية الكبرى كالمافيا، إذ يُمكنهم العمل بدون لوائح أو قادة، وتحقيق نجاحات تدميرية مؤسفة ذات تأثير كبير، وبتنسيق عفوي لا يُصدق!

قوانين الغباء البشري

أما عن قوانين الغباء فقد حصرها «سيبولا» في خمسة قوانين، وهي:

القانون الأول: العدد الفعلي للأغبياء

دائمًا، وبشكل حتمي، يُقلل الجميع من عدد الأغبياء في مجتمعٍ ما، ولو حاولنا تقدير عددهم نسبةً إلى عدد السُكان في أي مجتمع، فإن عددهم الفعلي سيفوق قطعًا العدد الذي قمنا بتحديده!

القانون الثاني: الغباء صفة مستقلة

الغباء كصفة محتملة لأي شخص يبدو مستقلًا عن أية صفة أخرى يتمتع بها، ومرده لا إلى الشروط الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو التعليمية، وإنما إلى الطبيعة، بمعنى أن كون المرء غبيًا يُماثل كونه أبيض أو أسمر البشرة، أو كونه ذا شعر أصفر وعيونٍ زرقاء، وبالتالي يوجد أغبياء بين كافة طبقات المجتمع، بما في ذلك أساتذة الجامعات والنخبة الثقافية، وحتى الحاصلين على جائزة نوبل!

القانون الثالث: القانون الذهبي للغباء

يتسبب الشخص الغبي في خسائر لشخصٍ آخر أو مجموعة من الأشخاص، لكن ذلك لا يُحقق له أية مكاسب، بل ربما تكبد هو ذاته خسائر مماثلة. هذا هو القانون الذهبي للغباء، فلا أحد يعرف بدقة لماذا يفعل هذا الكائن ما يفعله، ثمة تفسير واحدٍ فقط لذلك، هو كونه غبيًا!

القانون الرابع: القوة المدمرة للأغبياء

عادة ما يستخف غير الأغبياء بالقوة المدمرة للأغبياء، وهو ما أدى –ويؤدي دومًا– إلى أخطاء مُكلفة وخسائر ضخمة في كل مكانٍ وزمان.

القانون الخامس: أخطر الناس هو الشخص الغبي

الإنسان الغبي هو أخطر أنواع البشر، بل ربما كان أكثر خطورة من اللص وقاطع الطريق، فالمجتمعات التي تسود فيها ثقافة اللصوصية يمكن لجميع أفرادها أن يسرقوا بعضهم البعض، وبالتالي تتوزع الخسائر والمكاسب، لكن المجتمعات التي يُهيمن عليها الأغبياء تزداد فيها نسبة العاجزين الخاضعين للخسائر دون أية مكاسب، الأمر الذي يُلقي بهذه المجتمعات في دوامة التراجع والانهيار!

من جهة أخرى، يُمكن لأي عاقل أن يفهم منطق قطاع الطرق، ذلك أن أفعالهم إنما تأتي وفق نمطٍ من العقلانية –ولو كانت سيئة– تتمثل في حيازة أموال أو ممتلكات غير مُستحقة، وبالتالي يُمكنك التنبؤ بسلوكهم وبناء الدفاعات المُضادة لمواجهتهم،

لكن هذا مستحيل إزاء الشخص الغبي، إذ لا توجد وسيلة عقلانية لمعرفة نواياه أو أهدافه، ولا يُمكنك تحديد متى وكيف ولماذا يُهاجمك هذا المخلوق، وباختصار: عندما تواجه شخصًا غبيًا فأنت تحت رحمته تمامًا، مسلوب الإرادة!

كل هذه الدراسات وغيرها تؤكد بالفعل أن خطر الأغبياء، لا سيما في بيئة العمل، يفوق أي خطر آخر، ليس بإمكانك الاعتراض على وجودهم، وإن حاولت، فكن حذرًا، وأخبر طبيبك عنهم كي يعرف مصدر وطبيعة أمراضك!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية