العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثالث والأربعون
المدرسة المشَّائية: (41) ابن رشد وكتبه: "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"
الفلسفة والتأويل (9): جدل الظاهر والمؤول
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 42) جدل الظاهر والمؤول (8): ثالثًا: قوانين التأويل وقواعده الرئيسة: أ. ما يؤول وما لا يؤول.
ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: جدل الظاهر والمؤول.
ب. أصناف الناس إزاء التأويل: جمهور وجدليون وبرهانيون
مقصود الشرع: التعليم: تعليم الحق والعمل بالحق
يقول ابن رشد: “وينبغي لك أن تعلم أن مقصود الشرع إنما تعليم الحق والعمل الحق. والعلم الحق معرفة الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء”.
التعليم: تصورٌ وتصديق: خطابةٌ وجدلٌ وبرهان: الشيءُ نفسُه ومثالُه
يقول ابن رشد: “ولما كان مقصودُ الشرع تعليم الحق والعمل الحق، وكان التعليم صنفين: تصورًا وتصديقًا، كانت طرق التصديق الموجودة للناس ثلاثة: البرهانية والجدلية والخطابية، وطرق التصور اثنتين: إما الشيء نفسه وإما مثاله. وكان الناس كلهم ليس في طباعهم أن يقبلوا البراهين ولا الأقاويل الجدلية فضلًا عن البرهانية، مع ما في تعلم الأقاويل البرهانية من العسر والحاجة إلى طول الزمان لمن هو أهل لتعلمها، وكان مقصودُ الشرع تعليمَ الجميع، وجب أن يكونَ الشرعُ يشتمل على أنحاء طرق التصديق، وأنحاء طرق التصور جميعها”.
“ولما كانت طرق التصديق منها ما هي عامة لأكثر الناس، أعني وقوع التصديق من قبلها وهي الخطابية والجدلية، والخطابية أعم من الجدلية، ومنها ما هي خاصة بأقل الناس وهي البرهانية، وكان الشرع مقصوده الأول العناية بالأكثر، من غير إغفال تنبيه الخواص، كانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق”.
فإذًا:
– الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف: خطابيون، جدليون، برهانيون:
- صنف ليس من أهل التأويل أصلًا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب. وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق.
- وصنف من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة.
- وصنف من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة.
ج. طرق الشرع في التصديق ثلاثة
وتبعًا لانقسام مراتب الناس إزاء التأويل ثلاثة أقسام تنقسم طرق الشرع إلى ثلاثة طرق: “وهذا التأويل ليس ينبغي له أن يصرح به لأهل الجدل، فضلًا عن الجمهور. ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات إلى من هو من غير أهلها، وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمُصرح به والمصرح له إلى الكفر. والسبب في ذلك أن التأويل يتضمن شيئًا من إبطال الظاهر وإثبات المؤول. فإذا بطل الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤول عنده، أداه ذلك إلى الكفر إن كان في أصول الشريعة. فالتأويلات ليس ينبغي لها أن يصرح بها للجمهور ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية. ويقال للجمهور فيه “وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ”. وبمثل هذا يأتي الجوابُ أيضًا في السؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور إلى فهمها، مثل قوله تعالى “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)” الإسراء”.
د. لا ينبغي التصريح بالتأويل للجمهور
أضرار إذاعة التأويل على العامة: وأما المصرح بهذه التأويلات –كما يقول ابن رشد– لغير أهلها فكافر لمكان دعائه الناس إلى الكفر، وهو ضد دعوى الشارع، وبخاصة متى كانتْ تأويلاتٍ فاسدةً في أصول الشريعة، كما عرض ذلك لقوم من أهل زماننا: فإنا قد شاهدنا منهم أقوامًا ظنوا أنهم تفلسفوا، وأنهم قد أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مخالفة للشرع من الوجوه جميعها، أعني لا تقبل تأويلًا، وأن الواجب التصريح بهذه الأشياء للجمهور، فصاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سببًا لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة.
ه. قاعدة عامة في التأويل: الخواص والعوام
واجب الخواص وواجب الجمهور: وبالجملة، فما يتطرق له كله من هذه الأقاويل تأويلٌ لا يدرك إلا بالبرهان، ففرضُ الخواص فيه هو ذلك التأويل، وفرضُ الجمهور هو حملها على ظاهرها في الوجهين جميعًا: أعني في التصور والتصديق، إذ ليس في طباعهم أكثر من ذلك.
خلاصة تأويلية:
البحث عن الحقيقة أفضل من امتلاكها: الراسخون ليسوا ملاكَ الحقيقة المطلقة، من حيث إن تأويلاتهم محض اجتهادات، قد تصيب وقد تخطئ. والتأويل لا يكون إلا بدليل.
والسؤال المعاصر الذي يمكن طرحه على الطرح الرشدي: هل يقبل التأويلُ هذه القولبة المنطقية الفكرية؟ وهل هذه القولبة صورية تخنق عمليةَ الإبداع في التأويل؟ وهل العلم للخاصة محرمٌ على العامة؟ وكيف نفرق بين تأويل صحيح وآخر فاسد؟ وهل أجاب ابن رشد عن هذه الأسئلة كلها، أم أجاب عن بعضها وترك لنا –نحن المعاصرين– استكمال البقية والبناء على ما انتهى إليه؟
أيًا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة، فالعبقرية الرشدية قررت أن لا يكون التأويل إلا بدليل، وأن تكون احتمالات التأويل كلها مبرهنة أو مستدلًا عليها. إن التأويل الرشدي ليس التأويل المنفلت الغارق في عدمية مطلقة، كما انتهى الحال بكثير من نظريات التأويل المعاصرة.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع ابن رشد وكتبه: “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت”: الفلسفة والتأويل: (10) جدل الظاهر والمؤول.
اقرأ أيضاً:
الجزء الواحد والأربعون من المقال
الجزء الثاني والأربعون من المقال
«زينون» يُرشد أتباعه إلى بابي الحقيقة والباطل
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا