لمَّا راحتِ الرغبةُ –بفتنةٍ وإغْراء– تداعبُ عيونَ مدينتي، قلنا: “ستمتدُ الموائدُ بعرضِ الفرح، وستُعد الأطعمةُ بحجمِ الجوع، وستدورُ الكؤوسُ كسواقي الريحِ في ليالي الشتاء، وستلتفُ أيدينا، بنعومةٍ ورقة، ضاغطةً حول خصورٍ لينةٍ ممتلئة”؛ لأننا حين نودع آخرَ ليلةٍ في ديسمبر، ونستقبل أولَ فجر يناير، سوف تنتابنا حالةٌ من الهُيامِ المُرْتَقَبِ لممارسةٍ طقسيةٍ لسهرٍ سنوي طويل، ابتهاجًا بعام يموت، وعامٍ تقومُ قيامتُه من جديد، وسيكون من اللازم علينا أنْ نطرحَ همومَنا في هذه اللحظات المباركة، ونلقي بها إلى قاع الجحيم، “ستذوبُ صراعاتُنا المذهبية، والطائفية، وستتحولُ شفاهُنا إلى الكلامِ همسًا، والسرِ بوحًا”، سنولدُ من جديد، حين تُجهز قاعاتُ اجتماعِنا المألوف حتى يأخذ عددٌ من الأصوات يضرب طبلةَ آذانِنا بعنفٍ أولًا، ثم يهدأُ فيصيرُ أنعمَ من الحرير، “دخلتُ أم ما زلتُ متمكنًا بالخارج؟”، ولما لمستْني قطعةُ لحمٍ، قطعةُ لحم دافئة، تمنيت لو ركلت بكل قوةٍ وعنف بقايا وعيي وعقلي، وفي لحظة الامتزاج بين وقتٍ مضى وآخر ينسلخ عنه، كفتِ الأصواتُ وانطفأتِ الأضواء، وبسرعة برق –وَمَضَ ومضى– أُضيئت قاعتُنا من جديد، وعادت أنوارها المتلألئة الصاخبة، تنبهتُ نصفَ يقظان وقد انتابني شعورٌ بأننا كلنا نصف متيقظينَ كذلك، حتى تطلعتْ عيونُنا –وقد بدتْ بلون الشَفَق القاني– إلى الساعة الكبيرةِ الفخمةِ المتوسدةِ قلبَ قاعةِ مدينتي، قاعةِ اجتماعنا السنوي، كانتْ عقاربُها متعانقةً متوقفةً –ما زالتْ– عند الثانية عشرة، قلنا: “مباركٌ باسم الرب عامُنا الآتي، ومباركون باسم الرب مَنْ يحيونَ فيه، ومباركةٌ هي كلُ أوقاتنا”، لكن الساعةَ الحائطيةَ، بدت منعكسةً، متماوجةً، في المرايا الحائطية المصقولة، وبدتْ كأنَّ عطلًا أصابها، وبحركةٍ مفاجئةٍ عَفْويةٍ متزامنةٍ، نظرنا إلى ساعاتِ معاصِمنا وجيوبِنا: “كانت كلها مثبتةً عند الثانية عشرة!”، وللحظةٍ عريضةٍ مريضة تسمرنا وتساءلنا في أنفسنا: “أين عامُنا الجديدُ؟ وما الذي أخره هذه المرة؟!”، ولمَّا بدأ تأثيرُ الأضواءِ والألوان والشراب ينزاحُ تدريجيًا، ويغادرُ أدمغتنا الثقيلة المثقلة، أخذنا نفركُ عيونَنا حتى سَرَتْ فيَّ رِعْشَةٌ باردةٌ مُثَلَجة، حين انتابني حَدْسٌ كالإلهام، يقول لي:” إن ساعتي لا شك مختلفة، وإن زماني ليس صنمًا لا يتحرك”، لكنني أُصبتُ بحزنٍ جنائزي فرعوني، عربي قديم، حين تأكدَ لي أن إلهامًا شيطانيًا إبليسيًا هو الذي أغواني، وأن نزيفَ مشاعري المُلتاعةِ من العَبَثِ لملمته، لمّا أدركتُ “أن ساعتي تمسكت –هي الأخرى– بصمتها الصخري القاسي، وأن عامي الجديد لا بد اغتالته يدٌ آثمةٌ وهو في طريقه إلينا”، وقد راحتْ ألسنةٌ حادةٌ جدًا كحدِ سيفٍ عربي قديم، راحتْ تجذب الكلامَ جذبًا عنيفًا، ثم راحتْ أيضًا تُلقي به في أعماقٍ عميقةٍ جدًا من التكهنات، وتمتماتٌ سحريةٌ وشعريةٌ ودينيةٌ حاولتْ تأسيسَ ملاحمَ تفسيريةٍ عريضةٍ جدًا، وأيدٍ متشابكةُ الأصابعَ راحتْ هي الأخرى تلعبُ في آلاتِ أوقاتِنا العاطلةِ المعطوبة المعطلة، فشعرنا بأننا مغلوبونَ على أمرنا، وبأننا نعيشُ خارجَ التاريخ، وأنَّ زمانَنا صارَ ضدنا، وأدركنا أننا يجبُ أنْ نفعلَ شيئًا له قيمةٌ يعيدُ إلينا حركةَ الزمنِ اليابس البائس، ويجلبُ –كما تعودنا دومًا– عامًا جديدًا، بهيجًا مرحًا هنيئًا، فحاول بعضُنا إصلاحَ آلةٍ أو اثنتين، وحاولَ متخصصٌ في الزمن يحملُ شهادةً أجنبيةً أنْ يمنحَنا اليقينَ بأن ما حدثَ، حدثَ في أماكن كثيرة، وأن الموضوع برمته ممكن أن يكونَ مجردَ حُلُمِ ليلةِ شتاءٍ صارَ يختنقُ فيه نسيمُ مدينتنا الليلي، واحتماليةُ أن كائناتٍ فضائيةً تحسدُ زماننا، فتدخلتْ وابتلعتْ أجزاءَ أوقاتِنا العاطلة، فتوقفت آلاتُها عن الرصد الزمني الرتيب المعتاد، هذه الاحتمالية المحتملة داعبتْ أوهامَنا، فأخذنا نصفقُ لها بكل قوةٍ ممكنةٍ ومخزونةٍ في أيدينا الغليظة، أما العالمون بالأشياء اللا مرئية، فقد “صوصوا” بالوَجْدِ الصُوفي وهم يطوحون بعمائمهم الخضراءَ والبيضاء والسوداء: “ربما وربما، ربما وربما”، وحين فكرَ ذوو الخروجِ من المآزق صرخوا بالثورة الحمراء والدم الزكي: “حطموها، حطموها”، فتراكمتْ بقاياها، تراكمتْ بقاياها حتى ارتفع غبارٌ سدَّ آذانَنا، وملأ عيونَنا وصدورَنا بالفتنةِ، غبارٌ له ملمسُ الحظِ، وطعمُ النُعَاسِ، لدرجةِ أنني شعرتُ بيقين بأن متاعبنا قد انتهت وإلى الأبد، وأحسسنا حينئذٍ، بدقاتِ ساعاتٍ عديدةٍ متناغمةٍ مرحةٍ منتظمةٍ، وقد سرتْ في عقولنا حنانًا ونعومةً وخفةً حقيقيةً، أخذتنا هذه الدقاتُ الحالماتُ إلى مداراتٍ كونيةٍ فضائيةٍ وسيعةٍ رحبة، وضحكنا بسرورٍ له طعمُ الانتشاء مع إحساسٍ بالتمايز لا يُنكر، كما لا يمكنك أن تُنكِرَ أن حُلُمًا بحجمِ الفراغ كان يحضنُ صدورَنا، حتى أن أجسادَنا صارتْ أكثرَ خفةً، وكأنها ستتحركُ في الفضاءِ الوسيع، وأنه يمكن الآن –والآن فقط– أن نطيرَ بين النجومِ التسعة، والأكوانِ السبعة، وبأننا أصبحنا قادرين على الرسوخِ الوجداني وممارسةِ المتعة، متعة أنْ يضمنا ذاتُ الزمنِ، بنفسِ الانتظام، بالتساوي العادل، وأحسسنا بأننا قد بدأنا نكبرُ وننمو، نكبرُ ونشيخُ، نكبرُ وتزدادُ قامتُنا ارتفاعًا ورؤوسُنا عِزةً، لكنَّ أمنيةً وحيدةً –وأخيرةً متأخرةً– راحتْ تداعبُ عيونَ مخيلتِنا الجماعية، أمنيةٌ لم تَعُدْ لنا سواها، قبل النومِ تزورُنا، وحينَ اليقظةِ تزاورُ عنَّا، أمنيةُ.. أن ننتصرَ يومًا على الزمن، أمنيةُ.. أن أصيرَ سرمديًا متوحدًا مع الفضاءِ ضد.. ضد الزمن.
مقالات ذات صلة:
ممارسة التعقل وإستحضار ثلاثية الزمن
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا