ضرورة قبول الآخر
ربطت الفلسفة السياسية بين “القبول” و”الالتزام السياسي” حين ذهبت للإجابة على تساؤل مفاده: لماذا يتعين علينا إطاعة الحكومة؟ وهو السؤال الذي أثاره العقل الأوروبي حين شرع في مراجعة فكرة “الحق الإلهي للملوك”، وراح يضربها من كل جانب حتى تهاوت صريعة تحت أقدام فكرة “العقد الاجتماعي”، الذي يعد المفكر الإنجليزي جون لوك من روادها. تطالب هذه الفكرة بإبرام عقد بين الحاكم والمحكوم، يحدد الواجبات والحقوق المتبادلة، فيصبح من الواجب على المواطنين طاعة الحاكم ما دام الأخير ينفذ بنود هذا العقد، فإن أخل بها بات الطريق مفتوحًا ومباحًا أمام التمرد عليه، والخروج على سلطانه.
أفاض المفكرون السياسيون المعاصرون في ترميم الشروخ التي وردت على فكرة “العقد الاجتماعي” في طورها الأول، فأنهوا معضلة التناقض بين انتماء الفرد للدولة وبين رفضه للنظام السياسي القائم، من خلال القول بأننا حين نتخذ موقفًا سياسيًا معارضًا، أو نمتنع عن التصويت للحكومة المتواجدة في السلطة، فإن هذا لا يعني أبدًا رفضنا للإجراءات التي بموجبها اختيرت تلك الحكومة، وهي إجراءات تنطوي على الاعتراف بحق المعارضة في التعبير عن رأيها والوصول إلى السلطة، وهذا ما تتيحه النظم الديمقراطية.
عند هذا الحد بدأت فكرة قبول الآخر، بوصفه هنا يمثل السلطة أو الحكومة، لتسيح في الجهات الأربع بحثًا عن مناطق جديدة لإنشاء روافد المصطلح وتجلياته وتطبيقاته، فظهرت تعبيرات مثل “الرأي الآخر” و”عدم إقصاء الآخر” و”عدم إلغاء الآخر” و”التعايش” مع الآخر“، إلخ. وراح البعض يتوسع في تعريف الآخر إلى درجة وصفه بأنه “هو غيرك بعد عنك أم قرب”، ولذا فقد يكون أباك، وأمك، وأخاك، وابنك، وزوجك، وابنتك، وابن عائلتك، وجارك، وابن بلدك، وأخاك في الدين، وفي الإنسانية.
كيف نقبل الآخر؟
طفق آخرون يتساءلون عن المعنى الواسع لقبول الآخر: هل هو قبول الاستماع إليه والدخول في حوار معه؟ أم قبول التعامل معه؟ أم قبول التعايش برفقته؟ أم التزاوج والمساكنة؟ أم المحبة والتآخي؟ أم التساوي في كل شيء؟ أم التساهل في كل ما لديه من اعتقادات وسمات وأفكار وتصورات وتصرفات؟
كل هذه أسئلة مشروعة في إطار المساجلات التي يخشى أصحابها من أن تكون فكرة “قبول الآخر” تعني بالضرورة التنازل له، والانسحاق أمامه، والتسليم بكل ما يعتقد فيه أو يفكر به، والتساهل أمام سلوكه مهما كان معوجًا، وأمام أقواله مهما كانت مغلوطة. أو أنها تعني أن يتخلى الإنسان عما هو منوط به من تغيير أوضاع بائسة، أو محاربة أفكار هدامة، أو الأخذ بيد الناس إلى ما هو أفضل وأرقى دائمًا.
الفرق بين قبول الآخر والاتفاق مع الآخر
مثل هذه الهواجس تنبع من خلط أصحابها بين فكرة “القبول” وفكرة “الاتفاق”، فالأولى لا تعني الثانية في كل الأحوال والأوضاع. الاتفاق يعني تحديد النقاط التي يُجمع عليها أشخاص يهتمون بموضوع أو موقف مشترك، وقد يعبر عن مجموعة القيم والمعتقدات والاتجاهات التي يتخذها أعضاء ثقافة معينة، وتمثل إطارًا متفقًا عليه، بغية تحقيق التكامل الاجتماعي. لذا فإن من الضروري أن يوجد قدر ما من الاتفاق حول شرعية النظام السياسي، وتوزيع الأدوار، وتحديد المسؤوليات، وبناء المكانة.
الاتفاق نوع من التضامن والمشاركة في القيم والأهداف والقواعد التي تحكم النسق الاجتماعي، وهو شعور بالوحدة أو الكيان الكلي، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الاتفاق يأتي كاملًا داخل هذا النسق في كل الأوضاع والظروف والأحوال. قد يكون كبيرًا في موضوعات معينة أو مواقف محددة، وصغيرًا أو محدودًا بالنسبة لأخرى.
كذلك تختلف نسبة السكان الذين يشتركون في الاتفاق حول نقاط مرجعية محددة، ومن العسير تحقيق اتفاق أو إجماع مطلق في المجتمعات الكبيرة المعقدة، التي توجد بها طبقات مختلفة المصالح، وجماعات سلالية، ومذاهب دينية، وثقافات فرعية متنوعة، ومجتمعات محلية متعددة، وتوزيع غير متعادل للقوة والسلطة، والدخل، وتباين القدرات، وفرص التعليم، والموارد، والمهن والوظائف.
كيف نزرع ثقافة قبول الآخر في عقول الأبناء؟
يذهب التربويون إلى التأكيد على أن “قبول الآخر” ثقافة تكتسب منذ الصغر، وأنه يمكن تنمية فهم الطفل للآخرين من خلال ما يلي:
- تقدير الآخرين: عبر تمييز الاختلافات معهم وقبولها، وتمييز القدرات والمواهب الخاصة، والأداء المتميز لديهم.
- فهم مشاعر الآخرين: من خلال تمييز مشاعرهم واحتياجاتهم واحترامها، وفهم تأثير تصرفات الشخص على مشاعر غيره وسلوكه.
- مهارات العيش في جماعة: وتتمثل في القدرة على التفاهم مع الآخرين، والتعاون داخل جماعة إنسانية رئيسة أو ثانوية، والقدرة على الدخول في صداقات، وإمكانية التشارك مع الآخرين عطاءً وأخذًا، وتمييز مزايا العمل مع الآخرين، وفهم وتلمس الاحتياج للقوانين، والاتفاقات، بعد امتلاك القدرة على وضعها أو سنها ثم الامتثال للعيش في ظلها.
- تعلم فض المنازعات: ويكون هذا عبر تنمية الحلول الملائمة لحل الخلافات، وضبط النفس في التعامل مع الرفاق وغيرهم.
الإسلام وقبول الآخر
فكرة قبول الآخر راسخة في الأديان السماوية التي أنزلها الله لمصلحة البشر، واستقامة الحياة ورقيها. ويقوم تصور الإسلام لقبول الآخر، على آيات قرآنية محددة منها هاتان الآيتان، اللتان يقول فيهما الله تعالى: “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” 13 – سورة الحجرات، “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” 118 – سورة هود. وتقوم هذه الرؤية على عدة مبادئ، أوردها الباحث ممدوح الشيخ في كتابه المهم الذي وسمه بـ”ثقافة قبول الآخر” على النحو التالي:
- وحدة الأصل الإنساني كله، إذ لا يكون مقبولًا مع الاختلاف أو الخلاف نفيالإنسانية عن “الآخر” بأي مبرر أو بأية صيغة.
- اختلاف الأمم إرادة إلهية، وهو من ناحية أخرى ابتلاء شأنه شأنكل الابتلاءات التي تمحص إيمان الإنسان.
- إن الاختلاف في الدين سنة كونية وجزء من حال التعدد في الكون الفسيح.
- جاء التعدد الإنساني بعد “وحدة”، وهو مرتكَز مهم بُني عليه مبدأ آخر مهمهو المساواة في الإنسانية، فكما أننا جميعًا نرجع إلى أبي البشرية آدم عليه السلام، فإننا جميعًا ننحدر من أمةواحدة تفرقت.
- أكد القرآن في مواضع عديدة وحدة الأصل الإنساني، من حيث المادة التي خلقمنها وعملية الخلق والفطرة التي فطر الله عليها الناس.
- عندما تحدث القرآن عن الطبيعة النفسية للإنسان لم يفرق في السماتالمشتركة بين أمة وأخرى، ولا بين مؤمن وملحد.
- لم يكن إخبار المؤمنين بهذه السنن الكونية في الاختلاف والتعدد مقصورًاعلى مجرد اتساع “معرفتهم”، فالقرآن كتاب هداية، ومن ثم فإنه كما توجه إلى المؤمنين توجهإلى “الناس” مؤمنين وغير ذلك.
- تبقى العلاقة بين “الناس” في القرآن محكومة بقيود أخلاقية وحدود لا يجوزانتهاكها، لأنها أوامر إلهية كرمت “الآخر” أيما تكريم عندما جعلت احترام إنسانيتهواجبًا شرعيًا، بل جعلت العدل معه علامة من علامات التقوى.
- تأكيد حرمة الحياة البشرية على قاعدة المساواة التامة في الإنسانية.
- إقرار مبدأ أن الخير يجوز أن يتجاوز غير المؤمنين ليشمل أكثر فئات “الآخر” عداء.
مقالات ذات صلة:
التعصب والتسامح في مرآة الممارسات التطبيقية
الأنا والآخر في تجليات الاختلاف الفلسفي
مهارات القيادة الناجحة والفعالة والتأثير في الآخرين
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا