فن وأدب - مقالاتمقالات

أزمة اغتراب الإنسان المعاصر .. مراجعة فيلم “في هذا الركن الصغير”

في شرفة غرفتها الصغيرة تغفو محتضنة أحد كتبها، يوقظها صوت ورائحة فوران القهوة، هكذا يُفتتح الفيلم القصير “في هذا الركن الصغير”، ليقدم حياة بطلته التي يبدو أنها تعاني الوحدة، والانفصال والاغتراب، واختارت العزلة والخلوة بنفسها، وسط الكتب، والقهوة، وعيدان البخور، في انتظار وترقب لأمرٍ ما، تمضي وقتها في تصفح المواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي.

أزمة فرد أم أزمة عصر؟

ينطلق الفيلم من الخاص إلى العام، ويعود ليبرز تأثير العام على الخاص، فبطلة الفليم تعاني الضجر والسأم من الواقع، فتهرب منه وتتقوقع على ذاتها، لتجد نفسها في مواجهة ما تهرب منه، ينفرد بها حتى يكاد يفتك بها.

فتقرر الانعزال الجزئي عن المجتمع، وتكتفي بمتابعة العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي جعلتها في حالة أسوء نتيجة رؤيتها الدائمة لأبرز الأخبار في مختلف المجالات، فتلاحقها الأحداث المتعاقبة، والتريندات المتلاحقة، والتعليقات السلبية على مواقع التواصل الاجتماعي،

من هروب الأفغان، وهرولتهم للتعلق بإحدى الطائرات المغادرة، بعد انسحاب الأمريكان وسيطرة طالبان على البلاد وهربًا من بطشهم، والعنف والتحرش الإلكتروني بأطفال بعض المشاهير، والتنمر الرقمي، والعنف والتطرف الديني، والإرهاب الفكري للمخالفين.

الصورة بألف كلمة

في هذا الركن الصغيريطرح الفيلم أفكاره الصاخبة بهدوء، ودون الوقوع في فخ المباشرة، ولغة الوعظ والخطابة، مكتفيًا بما تتصفحه البطلة على شاشة حاسوبها الشخصي، إذ سلط الفيلم الضوء على التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي على الأفراد بالمجتمع، ومدى الانتهاكات الأخلاقية الممارسة عبر الفضاء الرقمي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يغيب الحوار المباشر، وتغيب الشخصيات عن الفيلم، وتحضر الأدوات المساعدة المحيطة، والتعبيرات الجسدية، ولغة العيون، كوجود العديد من أكواب القهوة للدلالة على التوتر والقلق المستمر الذي تعانيه البطلة طوال الوقت.

اقرأ أيضاً:

أمنية طفل

هل استعمال مواقع التواصل الاجتماعي جعلك إنسانا أفضل؟

الإفراط والتفريط

كثير من الكتب.. كثير من الشقاء

يقول دوستو يفسكي: “إنّ شدة الإدراك مرض خطير! وإنّ إدراكًا عاديًا كافٍ من أجل سعادة الإنسان”، ويقول سيوران: “الوعي لعنة مُزمنة، إنه الإقصاء الحقيقي، فالجهل وطن، والوعي منفى”.

بينما يقول كافكا: “إذا كان هناك ما هو أشد خطورة من الإسراف في المخدرات، فمن دون شك هو الإفراط في الوعي، وإدراك الأشياء”.

وكما قال الأبنودي على لسان الأسطى حراجي القط مخاطبًا زوجته فاطنة أحمد عبد الغفار:” الجهل مريح يا فاطمة، الجهل مريح، عدم العلم مليح، عدم العلم عيون تنعس في الليل، ضحكة من القلب، من القلب صحيح، عدم المعرفة بيخلي الرجالة عيال، يضحكوا يبكوا، ودايما للدنيا طعم جديد”.

وهنا تكمن أزمة البطلة المتمثلة في انخراطها، واهتمامها الزائد، ومتابعتها لكل ما يدور حولها وانفعالها به، فمن الواضح من عناوين الكتب التي تمتلئ بها غرفتها، وموضوعاتها الفلسفية أن البطلة تعاني من إفراط في الوعي، نتيجة استغراقها في القراءة، وهو ما تؤكده الكتب المتناثرة في أرجاء غرفتها عن الإنسان، والحياة، والحرية، والضمير، وعصر الجماهير الغفيرة.

كتاب “اللا منتمي”

في هذا الركن الصغير

لكنها لا تستطيع أن تستفيد بهذا الوعي في تكوين رؤية أو اتجاه نحو العالم الذي تعيشه، ومن ثم فهي لا تستطيع أن تنحاز إلى أحد أو إلى شيء، فالفيلم يفتتح على اقتباس من كتاب “اللا منتمي” لـ”كولن هنري ولسون”، يبدو أنه يعبر عن الأزمة النفسية للبطلة،

يقول فيه: “العالم الذي يولد فيه اللا منتمي هو عالم بلا قيم، وسر شقاء اللا منتمي أن في البشر شيئًا من فطرة القطيع، حيث يعتقدون بأن ما يفعله معظمهم يجب أن يكون صحيحًا، فإذا لم يستطع اللا منتمي أن يخلق قيمًا جديدة فمن الأفضل له أن ينتحر، لأنه سيكون دائمًا منبوذًا ولن يناسب المجتمع أبدًا”.

تحزن البطلة لسماعها خبر عدم اختيارها في قرعة الهجرة إلى أمريكا رغم علمها بصعوبة المنافسة والاختيار، ولكن هذا يحيلها للتأمل أكثر في العالم والزمن الذي نعيشه،

فالأزمة ليست أزمة بلد أو مجتمع بعينه بقدر ما هي أزمة عصر وزمان يشبه الغابة، يدعي الجميع فيه التحضر، يحكمه القوي، ويفرض فيه أحكامه، عصر ممتلئ بالعنف الذي تغذيه الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي.

قصيدة “المدينة” لقسطنطين كفافيس

تضيق البطلة بوحدتها، فتهرب من سيل الأخبار المتلاحقة، وتشغل قصيدة “المدينة” لقسطنطين كفافيس التي يقول فيها:

“قلتَ: “سأذهب إلى بلاد أخرى، سأذهب إلى ضفة أخرى،

سأجد مدينة أفضل من هذه المدينة.

كل جهودي محتومة بالفشل

وقلبي متمدد ومدفون كما لو كان ميتا.

لن تجد بلادًا جديدة، لن تجد ضفة ثانية،

هذه المدينة ستطاردك، سوف تمشي

في الشوارع نفسها، تشيخ في الأحياء نفسها،

ستُصْبَغ رماديًا في هذه المنازل نفسها.

سينتهي بك المآل دائما إلى هذه المدينة. لا تتأمل أشياءً في مكان آخر:

ليس ثمة سفينة لأجلك، ليس ثمة طريق.

بينما كنت تبدد حياتك هنا، في هذا الركن الصغير،

دمرتها في كل مكان آخر من العالم”.

الحرب ضيفة في حياة فتاة

لتنتهي البطلة إلى نتيجة مفادها أنه لا وجود للمدينة الفاضلة في هذا العالم الذي نعيش فيه مهما تغير المكان، فالزمان هو الزمان، وأنها لا تستطيع أن تعيش في عالم وزمان لا تشعر ناحيته بأي انتماء فتقرر أن تنهي حياتها، وتهم بوضع شفرة حلاقة على شرايين معصمها،

وتستعرض ما مرت به طوال حياتها وأدى إلى الحالة التي تعانيها، فهل تُقِدم البطلة على الانتحار تحت وطأة هذه الحالة من الهشاشة، والوهن، والاستسلام؟ أم تعيد حساباتها وتعدل عن الانتحار أملا في بداية جديدة أو تغير في الأحوال؟

ينتهي الفيلم نهاية مفتوحة، ولكن لم تنتهِ أسئلته وأفكاره، التي ربما أبرزها سؤال: أين يمكن أن يذهب الإنسان حينما يشعر أن جميع الأماكن لا تناسبه؟! أو كما قال ديستويفسكي.

ينتمي الفيلم إلى فئة الأفلام الروائية القصيرة من السينما المستقلة، وهو من كتابة وإخراج هشام علي عبد الخالق، وبطولة شهيرة أبو سيف.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

**************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أحمد صلاح إبراهيم

معيد بمعهد التخطيط القومي