هل الفلاسفة الأطول عمرًا؟!
هذا سؤال طرحته على نفسي حين انتهيت من قراءة الترجمة العربية لرسالة شيشرون الشهيرة “في مديح الشيخوخة”، إذ تحدث عن أن معظم فلاسفة اليونان قد تمتعوا بطول العمر، وعاشوا حياتهم في جد ونشاط، وظلوا يواصلون إبداعهم الفكري حتى نهاية حياتهم.
عاش أفلاطون على هذا النحو في سنواته الأخيرة، وكان لا يزال يكتب حينما مات في سن الحادية والثمانين، وكان أيزوقراط مثلًا آخر على ذلك، إذ أخبرنا بنفسه أنه كان في الرابعة والتسعين حينما ألف كتابه “باناثينايكوس”، وقد عاش بعد ذلك خمسة أعوام أخرى، وعاش معلمه جورجياس الليونتيني حتى عيد ميلاده السابع بعد المائة دون راحة من الدراسة والعمل، وحينما سأله أحدهم عن ذلك رد بقوله: “لا سبب لدي لأشكو من الشيخوخة”، وهو رد نبيل من عالم جدير بالاحترام.
الحكمة زينة الشيخوخة
ليس هذا الأمر ببعيد عنا، فلدينا في مصر فلاسفة ظلوا يمارسون نشاطهم الفكري والإبداعي حتى الثامنة والثمانين، مثل زكي نجيب محمود الذي ظل يواصل كتاباته وحواراته الفلسفية طيلة حياته، وحسن حنفي الذي ظل يكتب ويحاور حتى الثامنة والثمانين وهو على فراش المرض، أما فيلسوفنا القدير د. مراد وهبة فلا يزال –أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والسعادة– يمتعنا بكتاباته الفلسفية والنقدية وقد تجاوز الخامسة والتسعين من عمره المديد.
إن لكل مرحلة عمرية مميزاتها وطريقة الحياة الملائمة لها، فإذا كانت الفتونة والاندفاع سمة مرحلة الشباب، فإن الحكمة وكمال الشخصية هي زينة الشيخوخة.
الأهم في اعتقادي –الذي يؤكده شيشرون طول الوقت– أن القدرة على الإبداع لا تنقطع بل تزداد توهجًا، فقد ألف سوفوكليس تراجيدياته وهو في شيخوخته، ويقال إنه حينئذ بدأ يهمل الإنفاق على أسرته بسبب شغفه بالكتابة، فجره أولاده إلى المحاكم لتجريده من أهليته بحجة عدم السلامة العقلية، لكنه قرأ على هيئة المحكمة مسرحيته “أوديب في كولونا” التي كان قد انتهى لتوه من تأليفها، وسأل الحضور إن كان ما سمعوه يشي بأنه عمل رجل مخبول؟! وعلى الفور أفرجت عنه المحكمة!
الشيخوخة وقت النشاط الدائب
إن الشيخوخة ليست –في نظر شيشرون– وقتًا للضعف والخمول بقدر ما يمكن أن تكون وقتًا للنشاط الدائب، ولا ينبغي للمرء فيها أن يتوقف عن تعلم أشياء جديدة كل يوم، فقد كان صولون يفخر بذلك، ومن المعروف أن سقراط قد تعلم العزف على القيثارة في شيخوخته.
ضرب شيشرون عشرات الأمثلة على أشخاص مسنين تمتعوا بممارسة أنشطتهم الصعبة طيلة حياتهم، كما نجحوا حتى بالاستمتاع بنفس المتع الحسية التي يتمتع بها الشباب رغم خفوت حدة هذه اللذات، وبالطبع وكعادة الفلاسفة فقد هاجم شيشرون اندفاع البعض في هذا الجانب قائلًا: “الآلهة لم تمنح الرجال أسمى من الذكاء البشري، وهذه المنحة الإلهية ليس لها من عدو إلا اللذة الحسية، فحيثما سادت الشهوة لا مكان لضبط النفس، وفي مملكة الانغماس في الملذات لا مجال للسلوك القويم”!
ما السر وراء طول عمر الفلاسفة؟
السؤال الآن هو: ما السر وراء طول عمر الفلاسفة رغم أنهم أكثر البشر إدراكًا لمشكلات الحياة والوجود، وأكثرهم إحساسًا بوطأة الزمن وغموض المصير؟!
الإجابة ببساطة: أن السر هو ممارستهم لفعل التفلسف ذاته، إذ إن كل ما يصادفه الفيلسوف من مشكلات فهي في اعتقاده قابلة للتأمل والحل، وهو يرى أن قيمة الحياة بل واستمراريتها يكمن في مواجهة أي مشكلات بعقل منفتح وبمرونة لا تتوقف أمام السفاسف من الأمور، والتركيز دومًا على أن المشكلة المعقدة اليوم سنستطيع فك عقدتها غدًا.
إن القدر الأكبر من الفلاسفة متفائلون بشأن المستقبل ويرون أن الغد سيحمل الأفضل دائمًا، ومن هنا فهم لا يشيخون ولا يخشون شيئًا، حتى الموت يرحبون به حينما يأتي أيًا كان وقته، وكم كان جميلًا أن يختتم شيشرون رسالته قائلا: “ما أجمل اليوم الذي سأتهيأ فيه للانضمام إلى هذه الصحبة المقدسة من الأرواح، مخلفًا ورائي عالمًا يسوده التلوث والألم”.
“منقول بإذن من كاتبه”
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا