في رحاب الفلسفة
في رحاب الفلسفة، قضيت ما يقرب من ثلاثين عاما، دارسا ومدرسا، قارئا وكاتبا، راضيا ومتذمرا، يائسا ومتحمسا، كرهت الفلسفة في البداية حين اقتربت من كثير من المشتغلين بها في وطني، كنت أظنها تلك الروضة الغناَّء التي يحتمي بها المرء من تقلبات الفكر وصراعات الحياة اليومية وغيابات الفوضى والجهل و الفساد ،
كنت أظنها قلعة الحكماء المضيئة في وطن تعوزه الحكمة في جده وهزله، لكن صدمني أنها لم تسبغ على معظم المشتغلين بها قيمها، ولم تمنحهم حصانة عدم الانزلاق إلى حماقات البشر وتفاهاتهم، ولم تحل بينهم وبين عبادة المال والجاه والقفز فوق أكتاف الآخرين وانتهاك حُرمة الأمانة العلمية، فأنَّى لها أن تسبغ على الآخرين قيمها؟
لِم اللافلسفة ؟
تضخمت معاناتي حين وجدت طلابي وقد ألقت وتُلقي بهم قسرا درجاتهم الدراسية بالآلاف إلى أقسام الفلسفة وما شابهها كبقايا لأسواق النخاسة التي تنصبها الدولة كل عام تحت مسمى التنسيق الجامعي، فإذا بهم محبطون، كارهون، مجبرون، مصنفون من حمقى المجتمع كأضغاث أحلام تؤرق أسواق العمل، ثقافة مجتمع مريض يخدعه بريق المسمى، فيعتمد تصنيفا يثير دهشة العقل والعالم لأهل القمة وأهل القاع!
بل لقد ازداد تضخم معاناتي حين وجدت العوام وأنصاف المتدينين وأرباع المثقفين في وطني ينظرون إلى الفلسفة كتهمة! فهي تارة «سفسطة»، وهي تارة أخرى «كفر وزندقة»، وهي تارة ثالثة «فذلكة ممقوتة»، وهي تارة رابعة «عمل من لا عمل له»!
وقتئذ شرعت في كتابة مقال يحمل عنوان «لِم اللافلسفة ؟»، في مقابل كتاب الراحل المبدع عبد الغفار مكاوي «لِم الفلسفة؟» أوضَّح فيه كيف أن التفكير _لاسيما إن كان فلسفيا_ ورغم كونه في ديننا الحنيف فرض عين على كل ذي عقل قد أصبح في ثقافتنا الهاوية إما عادة سيئة ينبغي التخلص منها، أو رفاهية لا نملك مقوماتها.
وكيف أن الحاجة الضرورية إلى التفلسف قد احتلت المركز الأخير في قائمة أولويات مجتمع ينخر الفساد في عظامه ويهدد أساسيات وجوده، وكيف أن القيم التي شكَّلت أحد مباحث الفلسفة الرئيسة (من حق وخير وجمال) لا قيمة لها دون جوهر يفعلها هو الإنسان، وكيف أن الفلسفة ليست حُلة نرتديها لنستر بها عورات جهلنا وتخلفنا ونفاقنا، وكيف وكيف وكيف..
فلنكف إذن عن التفلسف ريثما نستحقه، ولتكن اللافلسفة !
نعيب الفلسفة والعيب فينا
على أنني في لحظة مراجعة ضرورية لواقعنا الغث، أدركت أن جريمة المجتمع ضد الفلسفة هي كجريمة قاطف الزهرة ليزهو بها في معطفه قليلا ثم لا يلبث أن يلقي بها لتدهسها أقدامه وأقدام الآخرين! أو كجريمة الممارس لقتل البُرءاء لا لشيء إلا لتخلو له ساحة العبث، فيلهو مرحا وغباء فوق أشلاء ضحاياه!
أبدا ما كانت الزهرة آثمة، وما كان البريء مُعكرا لصفو الطُهر، وما كانت الفلسفة معيبة مذمومة. ألا تراها تتربع على عرش المعارف في معاقل الحضارة قديما وحديثا؟
ألا تراها غوثا للحيارى في دروب العلم طبيعيا كان أو إنسانيا؟ ألا تراها بما تثيره من دهشة وتساؤلات مقتحمة لمجاهل الوجود والعقل واللغة، مشخصة لأمراض الواقع؟ بل ألا ترى المشتغلين بها في الغرب هم قادة الفكر وصانعوا الرأي وراسموا السياسات؟
أبدا ما كانت الفلسفة معيبة مذمومة، وإلا فهل نعيب الدين الحنيف حين نرى بعض أصحاب الجلابيب واللحى يتاجرون به ابتغاء دنيا يصيبونها؟ وهل نعيب العلم حين يغدو وهما خادعا على أيدي الجهلاء؟ وهل نعيب التعليم حين يعبث به الحمقى فيجعلونه سلعة للبيع والشراء؟
وهل نعيب قيم المجتمع حين يسيطر عليها أهل الهوى والرياء؟ وهل نعيب التاريخ حين يكتبه اللصوص وسافكو الدماء؟ وهل نعيب اللغة حين ينطق ويتلاعب بها العامة والدهماء؟ وهل نعيب وسائل الإعلام حين يعتلي منصاتها مرضى العُهر والغباء؟
وهل نعيب المختنق حين نحول بينه وبين الهواء؟ نعيب الفلسفة والعيب فينا، وليس للفلسفة عيب سوانا، ونهجو المنطق بغير ذنب، ولو نطق المنطق لنا هجانا!
كفانا التفافا وصراخا حول جثث التخلف دون قدرة حقيقية على الحداد!