قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السابع والثلاثون

المدرسة المشَّائية: (35) ابن رشد وكتبه "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"

الفلسفة والتأويل (3): دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 36) عن مقدمة لفلسفة التأويل عند ابن رشد (2): رد ابن رشد على تكفير الغزالي للفلاسفة في المسائل الثلاث. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا.

3. فتوى ابن رشد ضد تحريم الفلسفة: إعادة إنتاج الكندي بطريقة فقهية

كان أولُ فيلسوفٍ لدولة العقل في الإسلام وأولُ الفلاسفةِ المشائينَ المسلمينَ فيلسوفُ العربِ الأول الكِنْدِي (أبو يوسف يعقوب ابن اسحق 185هــ/805– 260ه/873؟) وهو أول فيلسوف يقرر الاتفاقَ والتوافقَ بين الفلسفة والشريعة في القرن الثالث الهجري، في كتابه الرائد: “رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى”، (راجع: العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية ج3، ج4، ج5). وبدلًا من أن تنتهي المسألة عند ما قرره الكندي، الذي كان يخاطب رأس الدولة الخليفة المعتصم، ثار التساؤلُ مرة أخرى، بعد نحو ثلاثة قرون من ممارسة الفلسفة في العالم الإسلامي! ولم تكن المسألة المثارة في عصر ابن رشد فقط حول موافقة الحكمة للشريعة، بل صدرت الفتاوى –باسم الشرع وللعامة– بتحريم الحكمة وتكفير الفلاسفة، خصوصًا في المسائل المتعلقة بالإلهيات، فكان على ابن رشد أن يواجه هذه الفتاوى مواجهةً فقهيةً شرعية أصالةً، ثم مواجهةً عقليةً فلسفيةً تَبَعًا. هكذا كان على ابن رشد –وهو الفقيه الكبير قبل أن يكون الفيلسوف الكبير– أن يعيدَ إنتاجَ الكندي بطريقة شرعية فقهية.

كانت كتب الفقهاء قد قضت بـــ:

  • تكفير الفلاسفة المسلمين لكونهم، في نظر أصحاب فتوى التكفير، قد خرقوا الإجماع في التأويل.
  • تحريم النظر في كتب القدماء، وعلى رأسها كتب الفلسفة والمنطق.

إذًا، كان على ابن رشد، قاضي قضاة الأندلس، أن يفتي بشأن الفلسفة والمنطق والنظر في كتب القدماء رادًا على مكفري الفلسفة والفلاسفة من بعض الفقهاء والمتكلمين باسم الشرع. وسأعرضُ لرأي ابن رشد بالعناصر الآتية:

  • الفلسفة: واجبةٌ بالشرع.
  • علوم المنطق: واجبةٌ بالشرع.
  • النظر في كتب القدماء: واجبٌ بالشرع.
  • الفلسفة والمنطق: ليسا بدعةً.
  • النهي عن الفلسفة والمنطق: غاية الجهل.
  • إن غوى –بسبب الفلسفة– غاوٍ فلشيءٍ لحقها بالعَرَض لا بالذات.
  • حقيقةٌ واحدةٌ لا حقيقتين: الحقُ لا يضاد الحقَ.

وفيما يأتي تفصيل مناسب لهذه العناصر:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أ. الفلسفة: واجبةٌ بالشرع

يبين ابن رشد غَرضَه من تأليف كتابه “فصل المقال”، وهو:

الفحص، على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ أم محظور؟ أم مأمور به؟ إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟

كان جواب ابن رشد:

التفلسف هو اعتبار الموجودات (كل ما عدا الله) من حيث دلالتها على الصانع (الله تعالى)

وفي ذلك يقدم الفقيه الفيلسوف ابن رشد فتواه إلى العالم الإسلامي، فيقول: “إن كان فعل الفلسفة (= التفلسف) ليس شيئًا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع (الله تعالى) بمعرفة صنعتها وإنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم”.

الأمر بالاعتبار نصٌ على وجوب القياس العقلي (الفلسفة) والقياس الشرعي (قياس الفقهاء)

ويستشهد ابن رشد بقوله تعالى: “فاعتبروا يا أولي الأبصار” ويرى أن هذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معًا. وقوله تعالى: “أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء”. وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات.

أول المعتبرين (المفكرين) إبراهيم عليه السلام

“وممن خصه اللهُ بهذا العلم إبراهيمَ عليه السلام، فقال تعالى: “وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض”. وقال تعالى: “أفلا ينظرون إلى الأبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت”. وقال: “ويتفكرون في خلق السماوات والأرض”. إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.

الاعتبار هو القياس: استنباط المجهول من المعلوم

“وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئًا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه وهو القياس، فوجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي”.

البرهان: أتم أنواع القياس

“وبيّنٌ (واضحٌ) أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع، وحث عليه، هو أتم أنواع النظر بأتم أنواع القياس، وهو المسمى برهانًا (قياس الفلاسفة: القياس البرهاني= مقدمات يقينية مستمدة من بدهيات العقل وأوائل الحس تؤدي إلى نتيجة يقينية).

بعد كل هذه المقدمات:

  • التفلسف هو اعتبار الموجودات من حيث دلالتها على الصانع.
  • الأمر بالاعتبار نصٌ على وجوب القياس العقلي والقياس الشرعي معًا.
  • أول المعتبرين هو النبي إبراهيم عليه السلام.
  • الاعتبار هو القياس: استنباط المجهول من المعلوم.
  • البرهان: أتم أنواع القياس.

يصل ابن رشد إلى النتيجة الشرعية المنطقية: إذًا: يجب بالشرع النظر في القياس العقلي (الفلسفة).

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع ابن رشد وكتبه “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت”: الفلسفة والتأويل (4): دفاعًا عن الفلسفة ضد مكفريها تأويلًا.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس، الجزء السادس، الجزء السابع

الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر،الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر

الجزء الرابع عشر، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر

الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون، الجزء الثالث والعشرون

الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون، الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون

الجزء الثامن والعشرون، الجزء التاسع والعشرون، الجزء الثلاثون، الجزء الواحد والثلاثون

الجزء الثاني والثلاثون، الجزء الثالث والثلاثون، الجزء الرابع والثلاثون، الجزء الخامس والثلاثون

الجزء السادس والثلاثون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج