فن وأدب - مقالاتمقالات

الفلسفة التي أتعبتني!

في رواية “فلاسفة في حسائي” للروائي أحمد خالد توفيق (2006)، يدور الحوار التالي بين أرسطو وعبير:

“أرسطو: دعكِ من الامتحان، قولي لي بشكلٍ عام: ما الذي خرجتِ به من الفلسفة؟

فكرت عبير حينًا، وأرجعت ظهرها إلى الوراء، ثم قالت: لا شيء في الواقع، عندما جئت إلى هنا كنت أطلب إجابة بسيطة عن مشكلة بسيطة؛ كيف أنتصر على الألم الذي أشعر به لأن زوجي تخلى عني.

كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة؟

وجدت أفلاطون يطالبني بأن أنغمس في الهندسة وحساب المثلثات كي أنسى، ووجدت ديوجين يطالبني بأن أعيش في برميل وأعوي كالكلب، ووجدت أبيقور يطالبني بأن أشرب الخمر وألهو قدر الإمكان!

أنت –أرسطو– اقترحت أن أنتظر وأصبر إلى أن تصعد روحي وتعيش بين النجوم، كامو اقترح أن أنتحر، وسارتر يطالبني بتحمل مسؤولياتي.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هيجل يريد أن أمزج بين الطريحة والنقيضة وأن أنضم لجمعيةٍ ما ليكون لحياتي معنى، وكانط يطالبني بالتجريب!

نيتشه وشوبنهاور يريان أني كائنٌ حقير لا نفع له إلا خديعة الرجال! فيثاغورث يرى أن الموسيقى هي الحل، خاصةً لو أغرقت آلامي في الرقم عشرة.

عزاءات الفلسفة

كل هذا مع كثيرٍ من المشي وتسلق الجبال والجري في شوارع أثينا وباريس، لقد أتعبتني الفلسفة، أتعبتني جدًا!”.

لو التقيت عبيرًا في الرواية، لقلت لها: أتعبتك الفلسفة وأنت تركضين في شوارع أثينا وباريس وتستمعين إلى حكماء التاريخ؟

فماذا لو كنت تركضين في شوارع العرب وتستمعين إلى بعض فلاسفتهم من المسؤولين والخبراء والإعلاميين وأساتذة الجامعات ومرتادي مواقع التواصل الاجتماعي؟

ماذا لو التقيت أحدهم وقذفك بتصريحٍ أو تُهمة، أو صفعك بقانونٍ أو قرار، أو اختال أمامك بعبقرية الجهل وشموخ الرياء؟

ربما أيقنت وقتئذٍ أن البحث عن فلسفة للانتصار على الألم قد يكون أشد ألمًا من تجرعه بهدوء!

هل البقاء للأقوى أم للأصلح؟

فلاسفة في حسائيوقت أن كنا صغارًا، كانوا يعلموننا في المدارس كيف نقرأ، كيف نفهم ونحلل وننتقد، كيف نبني العقل ونبني الوطن.

كانوا يقولون لنا: “اكتشف المارد في داخلك، اكتشف المُبدع علمًا وأدبًا وفنًا، اكتشف الإنسان!”.

وكبرنا، ومرت بنا الأيام والأعوام، من نظامٍ إلى آخر، ومن حكومةٍ إلى أخرى، ومن حالٍ إلى حال، وبات ما تعلمناه كلامًا للتسويق الخطابي؛ مجرد أوهام من صُنع الخيال!

رأينا بأم أعيننا أن البقاء ليس للأصلح كما أخبرنا داروين، بل للأفسد، وربما كان المعنى أن الأفسد هو الأصلح؛ البقاء في وطني للسارق والتافه والمتملق والمحتال!

أطلت علينا من خلف الأقنعة وجوهٌ سافرة، تنطق بكلمات سافرة: “ابحث عن اللص في داخلك، فتش عن آيات النفاق، ولا تسل، لا تبغ الفهم، بل اكتشف بداخلك الحمار، اكتشف الحمار!”.

من نقد العقل العربي إلى محاكاة الواقع

في وطني، كل شيء ممكن، طالما ظلت تهيمن على المرء عقلية النفاق والتخوين والتسلق وأحادية الرأي، لتصبح أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

ربما كانت أحداث ما يُعرف بالربيع العربي قبل ما يزيد عن عقدٍ قد غيرت من شكل المنطقة العربية، لكنها لم تغير العقل العربي، ولم تغير الضمير العربي، ولم تغير الدكتاتورية العربية، ولم تغير مفهوم التغيير العربي ذاته.

صحيح أنها أنبتت أزهارًا فتية ترنو إلى سماء الحرية، لكنها ظلت مطمورة في تربة العفن العربي!

لم نستطع أن ندرك بعد –على حد تعبير جون ستيورات مل– أننا إذا أسكتنا صوتًا، أو سخرنا منه، فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة، وأن الرأي الآخر ربما يحمل في جوانحه بذور الصدق، وأن الرأي السائد نظاميًا سيفقد بالضرورة أهميته وتأثيره ما لم يواجه تحديًا من حين إلى آخر!

لم نستطع أن ندرك أن كثيرًا من أهل النُخبة قد تربوا في زرائب العبودية على فتات سادتهم، وأن كثيرًا من أهل الحل والعقد هم أصل المشكلة ووقودها، وأن كثيرًا ممن نراهم ونقرأ ونستمع لهم لم يبلغوا بعد مرحلة رُشد التمييز بين الشخص والفكرة؛ بين حُب الشخص وحُب الوطن!

هل أصبح التفكير جريمة؟

فلاسفة في حسائيفي زماننا العربي هذا، من السهل أن تُضبط متلبسًا بجريمة التفكير، وأن تُحاكم بتهمة حيازة عقل، وحينئذٍ قد تدفعك قسوة العقوبة إلى التبرؤ من ذلك الكيان المفارق فيك، المتورط به وفيه؛ من العقل!

أليس هذا أفضل من أن تقضي حياتك موشومًا بالتشاؤم، بإثارة الفتنة، بإهانة الزائف اللا معقول؟ ألم يظفر أولئك الذين سلِموا من جناية العقل بحياةٍ ينشدها العقل ذاته؟

هل بإمكانك يا صديقي أن تذكر شخصًا –في مجمل محيطنا العربي– أودى به جهله إلى الشقاء، ثم انتهى به المطاف إلى القبر محرومًا حزينًا؟

ألا تُخبرك المقابر أن كثرةً من قاطنيها قد توافدوا إليها سراعًا بسببٍ من حصائد عقولهم؟

ما قيل عن الجهل

صدق ابن الهبارية حين كتب ذات يومٍ:

“الجهلُ أروحُ للفتى من عقله      يُمسي ويُصبح آمنًا مسرورًا

ترَك العواقب جانبًا عن فكرهِ         وسَعى رواحًا في الهوى وبكورًا

والعقل يعقله على حسراتهِ        ويصدّه فيردّه محسورًا

وتراه مهتمًا كثيرًا غمُه                يحيا أسيرًا أو يموت فقيرًا

لما علا الجُهَّال في أيامنا            ورُقوا ونالوا منزلًا وسريرًا

أخفيت علمي وأطرحت فضائلي علّي أكون إذا جَهِلتُ أميرًا!”.

اقرأ أيضاً: عن أصل الفلسفة أتحدث

اقرأ أيضاً: بوئثيوس بين عزاء الفلسفة وعجلة الحظ!

اقرأ أيضاً: قبل أن تنبهر بما وراء الطبيعة، تمهل قليلاً

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية