لعل واحدة من أكثر الجمل منطقية ووضوحا في وقتنا الحاضر هي هذه الجملة: “الرئة تقوم باستخلاص الأكسجين من الهواء الجوي لتنقله إلى الدم، بينما تتخلص من ثاني أكسيد الكربون”، لكن قد يكلفك ذلك بضع دقائق تقرأ فيها الفقرات التالية لتعلم أن ما يبدو لنا الآن منطقيا وبسيطا قد استغرق آلاف السنين من البحث والعمل لإزالة ما كان يشوبه من تعقيد وما كان يعتريه من غموض.
شرح عملية التنفس عند الفلاسفة
في البدء كانت الفلسفة، حيث افترض فلاسفة القرن السادس قبل الميلاد أن عملية الاستنشاق ما هي إلا طريقة لإدخال الروح إلى الجسد، وفي مصر افترض ابن مدرسة الإسكندرية وأمين مكتبتها الكبرى عالم الفلك والرياضيات “إيراتوستين” وجود عنصر ما في الهواء يتم استنشاقه، فيتفاعل مع الدم ويكون نتاج ذلك الروح، كان ارتباط التنفس بالحياة ارتباطا قويا وأزليا.
أول محاولة حقيقية لفهم ماهية الرئة
كانت أول محاولة حقيقية لفهم ماهية الرئة ووظيفتها في جسم الإنسان هي ما قام بها الطبيب والفيلسوف اليوناني جالينوس ١٢٩-٢٠٠ م، والذي افترض أن وظيفة الرئة الأساسية هي التهوية على القلب لتقليل درجة حرارة الدم بداخله،
لكنه لم يجد تفسيرا واضحا لكيفية انتقال الدم من البطين الأيمن للقلب إلى البطين الأيسر فافترض وجود ثقوب غير مرئية في الحاجز الفاصل بينهما يسمح بانتقال الدم من جزئه الأيمن إلى جزئه الأيسر.
ترى كيف سيكون شعور جالينوس اليوم إذا ما رآنا نفحص القلب بالموجات فوق الصوتية، لنشاهد تدفق الدم من البطين الأيمن خلال الشريان الرئوي متجها نحو الرئة، وعائدا منها إلى البطين الأيسر؟
شرح الدورة الدموية الصغرى لأول مرة
أبو الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم القَرشي الدمشقي الملقب بابن النفيس، ويعرف أحيانًا بالقَرَشي بفتح القاف والراء نسبة إلى بلدة “القرَش” التي تقع قرب دمشق، عالم موسوعي وطبيب عربي مسلم فند ما قاله جالينوس،
حيث شرح لأول مرة الدورة الدموية الصغرى، مبينا أن الدم يمر من البطين الأيمن للقلب إلى الرئة حيث يتم تزويده بالأكسجين، ثم ينتقل بعدها إلى البطين الأيسر للقلب فيضخه إلى باقي أعضاء الجسم.
ورغم أن الغرب ينسب اكتشاف الدورة الدموية الصغرى إلى وليام هارفي، وأحيانا إلى الطبيب الإسباني شهيد درس اللاهوت ميشيل سيرفيت، إلا إن كتابه “شرح تشريح قانون ابن سينا” أكبر دليل على أسبقيته، حيث تضمن العديد من الاكتشافات التشريحية الجديدة،
وأهمها نظريته حول الدورة الدموية الصغرى، حيث يقول فيه: “إن الدم ينقى في الرئتين من أجل استمرار الحياة وإكساب الجسم القدرة على العمل، حيث يخرج الدم من البطين الأيمن إلى الرئتين، حيث يمتزج بالهواء، ثم إلى البطين الأيسر”، بكلمات محددة وواضحة أخرج ابن النفيس اكتشافه إلى العالم وتركنا نتحسر على ما آل إليه أمر العلم في بلادنا.
الطبيب الإيطالي مارتشيللو مالبيجي وشرحه لكيفية انتقال الدم
“خلال قيامي بهذه البحوث تكشف أمام عيني الكثير جدًا من معجزات الطبيعة، حتى استشعرت لذة باطنية لا قدرة لقلمي على وصفها”، إنها ليست كلمات قديس أو شاعر بل هي كلمات الطبيب الإيطالي مارتشيللو مالبيجي، الذي ينتشر اسمه على أجسادنا في “الحزم المالبيجية”، وفي “الكريات المالبيجية” في الطحال، وفي “الطبقة المالبيجية” في الجلد،
حيث رأى من خلال مجهره كيف ينتقل الدم في رئتي الضفدعة من الشرايين إلى الأوردة في أوعية سماها “الشعيرات” لدقتها المتناهية، وقد وجد شبكة من هذه الشعيرات حينما تحول الدم الشرياني إلى دم وريدي.
اقرأ أيضاً:
هل تعلم أن لرئتك وظائف أخرى غير عملية التنفس؟
التوصية الغذائية للوقاية من أمراض القلب
دور علم الفيزياء في تفسير عملية التنفس
كان لعلم الفيزياء دور كبير وهام في وضع إجابات للعديد من الأسئلة المتعلقة بعملية التنفس واستخلاص الرئة لغاز الأكسجين، حيث قام ريتشارد لور صاحب أول عملية نقل دم ناجحة بضخ كميات من الهواء إلى رئة كلب، فلاحظ أن الدم الوريدي الداكن اللون يتحول إلى اللون الأحمر الساطع بعد مروره بالرئة.
فسر العالم جون مايو ذلك بأن عناصر معينة موجودة في الهواء الجوي هي المسؤولة عن تغير لون الدم عند مروره بالرئة أثناء عملية التنفس، وهي كذلك المسؤولة عن عملية الاحتراق، وقد أطلق عليها اسم العناصر النيتروهوائية، وهي التي عرفت فيما بعد بالأكسجين، ولكنه اعتقد أنه من غير الممكن فصل هذه العناصر.
نظرية الفلوجيستون
ثم ظهرت بعد ذلك نظرية غريبة سميت بنظرية الفلوجيستون، وتنص هذه النظرية على أن كل المواد القابلة للاشتعال تتكون من عنصرين أساسيين هما الفلوجيستون وهو الذي يتحول إلى النار عند تسخين المادة، وعنصر الرماد الذي يتبقى بعد احتراق المادة وانطلاق الفلوجيستون،
ظلت هذه النظرية الخاطئة مسيطرة على الأوساط العلمية فترة طويلة من الزمن، إلى أن ضحدها العالم لافوازييه والذي وصف عملية التنفس بعملية احتراق تتم ببطء شديد تماما كعملية احتراق الفحم.
تذكرني هذه الفرضيات بمقولة للعالم جيمس واطسون ثاني اثنين اكتشفا اللولب المزدوج للحمض النووي حيث يقول: “إن المرء لا يصبح عالما حتى يعتقد أن معظم من يسمون أنفسهم علماء ليسوا كذلك، بل هم في الحقيقة أغبياء”.
تاريخ تسمية غاز الأكسجين
في عام ١٧٧٤ استطاع العالم بريستلي استخلاص غاز الأكسجين عن طريق أكسدة الزئبق، وملاحظة أن الغاز الناتج يساعد على الاشتعال، نفس الملاحظة التي استنتجها العالم شيله من خلال أبحاثه، فأطلق عليه غاز النار أو هواء النار.
عام ١٧٧٧ أعاد لافوازييه تسمية غاز النار بالأكسجين، وهو مصطلح يوناني يعني مولد الحمض، حيث كان يعتقد خاطئًا أنّ الأكسجين كان أساسيًا لتشكيل جميع الأحماض على الإطلاق،
وذلك انطلاقًا من أنّ أكثر الأحماض اللا عضويّة المعروفة في ذلك الزمن كانت تحوي عنصر الأكسجين، إلى أن عرف بعد ذلك أنّ هناك أحماضًا لا تحوي الأكسجين، وأنّ أساس الأحماض هو الهيدروجين، إلا أنّ الاسم بقي على ما هو عليه.
فرضية إفراز الأكسجين
فرضية أخرى خاطئة ظلت مسيطرة على الأوساط العلمية فترة ليست بالقليلة من الزمن، ألا وهي فرضية إفراز الأكسجين، حيث افترض العالم بور أن انتقال الأكسجين من الرئة إلى الدم لا يتم بواسطة عملية الانتشار وإنما تقوم أغشية الحويصلات الهوائية بإفرازه في الدم، شأنه في ذلك شأن أي هرمون بالجسم.
إلى أن تمكن مساعده أغسطس وزوجته من إثبات أن انتقال الأكسجين يتم فقط بواسطة الانتشار، حيث تمر جزيئات الأكسجين من الهواء إلى الدم خلال جدران الحويصلات الهوائية.
إن القليل من التدبر يوصلنا إلى أن الكثير من الجمل العلمية التي نتعامل معها على إنها غير قابلة للجدل سطرت بجهود علماء كثر عبر سنوات طويلة، فسبحان من اختارنا ليعلمنا ما لم يعلمه غيرنا، فكان فضل الله علينا عظيما.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا