قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الخامس والخمسون

المدرسة المشَّائية: (53) إخوان الصفا وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [9]: ميتافيزيقا الهندسة (الجُومَطْرِيا): جوهر النفس ولغة البعث

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 54) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [8]: ميتافيزيقا الهندسة (الجُومَطْرِيا): الهندسة الحسية والهندسة العقلية.

ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.

1. الهندسة: من الأمور الجسمانية إلى الأمور الرُوحانية

إن هدفَ دراسة علم الهندسة بعد دراسة علم العدد –عند إخوان الصفا– هو ترقيةُ نفس أخيهم القارئ من الأمور الجسمانية إلى الروحانية. وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “وإذ قد ذكرنا طَرَفًا من الهندسة الحسية شِبهَ المدخل والمقدمات، فنريد أن نذكر طرفًا من الهندسة العقلية، إذ كانت هي أَحَدَ أغراضِ الحكماء الراسخين في العلوم الإلهية، المُرتاضين بالرياضات الفلسفية، وذلك أن غَرَضَهم في تقديمِ الهندسة بعدَ علمِ العَددِ هو تخريجُ المتعلّمين من المحسوسات إلى المعقولاتِ، وترقيتهم لتلاميذهم وأولادِهم من الأمور الجِسمانية إلى الأمور الروحانيّة”. إن الهندسة –عند إخوان الصفا– الأساس الفلسفي الذي ينطلقون منه لإثبات رُوحانية النفس وبعثها ومعرفة جوهرها.

2. الهندسة: معرفة جوهر النفس

إن الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق هي الأشكال البسيطة الأولى، إذ إن الطول هو البعد الأول الذي يكوّنه الخطُ عن طريق رسم المسافة بين نقطتين، والعرض هو البعد الثاني الذي بإضافته للطول تتكون المساحةُ الناتجةُ عن رسم ثلاث نقاط ليست على خط واحد، والعمق هو البعد الثالث الذي يتكون منه الحجم نتيجة رسم أربع نقاط ليست على مساحة واحدة. ووجود هذه الأشكال البسيطة يمكن أن يكون في المادة فتُدرَك بالحواس، أو في النفس فتدرك بالعقل. فالهندسة تقودنا إلى معرفة جوهر النفس. وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “فاعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، أن النظرَ في الهندسة الحِسية يؤدي إلى الحِذق في الصنائع العَملية كلّها، والنّظرَ في الهندسةِ العقليةِ يؤدي إلى الحِذق في الصنائع العِلمية. لأن هذا العِلمَ هو أحدُ الأبوابِ التي تؤدي إلى معرفة جوهرِ النفس التي هي جِذْرُ العُلوم وعُنصرُ الحِكمة، وأصلُ الصنائع العِلمية والَعَملية جميعًا، أعني معرفة جوهرِ النفس، فاعلمْ جميعَ ما قلنا”.

3. الهندسة: معرفة تأثيرات النفوس المفارقة في النفوس المتجسدة

كذلك يرى إخوان الصفا أن معرفة الهندسة هي طريقُ أخيهم القارئ لمعرفة تأثيرات النفوس المفارقة في نفوسنا البشرية. وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “واعلم أن النظر في علم الهندسة الحسية يعين على الحِذْق (المهارة) في الصنائع، والنظر في الهندسة العقلية، ومعرفة خواص العدد والأشكال، يعين على فهم كيفية تأثيرات الأشخاص الفلكية وأصوات الموسيقى في نفوس المستمعين، والنظر في كيفيات تأثيرات الحس في منفعلاتها يعين على فهم كيفية تأثيرات النفوس المفارقة في النفوس المتجسدة في عالم الكون والفساد. وفي علم الهندسة العقلية طريق إلى الوصول إلى معرفتها بعون الله وهدايته”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذًا الهندسة تقودنا إلى معرفة جوهر نفوسنا وعلاقتها بالنفوس المفارقة وتفهيمنا لغة الموسيقى ولغة عالم الأرواح، وذلك لأن الهندسة –كما يعتقد إخوان الصفا– تفهمنا لغةَ البعث.

5. الهندسة: لغة البعث

إن في معرفة الهندسة معرفةً وفهمًا للغة البعث. ويقول إخوانُ الصفا لأخيهم القارئ: “واعلم بأن كثيرًا من المهندسين والناظرين في العلوم يظنون أن لهذه الأبعاد الثلاثة، أعني الطول والعرض والعمق، وجودًا بذاتها وقوامها، ولا يدرون أن ذلك الوجود إنما هو في جوهر الجسم أو في جوهر النفس، وهي لها كالهيولى وهي فيها كالصورة إذا انتزعتها القوةُ المفكرةُ من المحسوسات. ولو علموا أن الغرضَ الأقصى من النظر في العلوم الرياضية إنما هو أن ترتاض أنفس المتعلمين بأن يأخذوا صورَ المحسوسات من طريق القوى الحساسة وتصورها في ذاتها بالقوة المفكرة، حتى إذا غابتِ المحسوساتُ عن مشاهدة الحواس لها، بقيتْ تلك الرسومُ التي أدتها القوى الحساسة إلى القوة المتخيلة، والمتخيلة إلى القوة المفكرة، والمفكرة أدتْ إلى القوة الحافظة، مصورة في جوهر النفس، فاستغنت عند ذلك النفس عن استخدامها القوى الحساسة في إدراك المعلومات عند نظرها إلى ذاتها، ووجدتْ صورَ المعلومات كلها في جوهرها، فعند ذلك استغنتْ عن الجسد، وزهدتْ في السكون معه، وانتبهتْ من نوم الغفلة، واستيقظتْ من رَقْدَةِ الجهالة، ونهضتْ بقوتها واستقلتْ بذاتها، وفارقتِ الأجسامِ وخرجتْ من بحر الهيولى (المادة) ونجتْ من أسر الطبيعة، وأُعتقتْ من عبودية الشهوات الجسمانية، وتخلصتْ من حُرْقَةِ الاشتياق إلى اللذات الجِرمانية (الجسمانية)، وشاهدتْ عالمَ الأرواح، وارتقتْ إلى هناك إذ قال: “إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه” أراد به النفس الزكية، وجُوزيتْ بأحسنِ الجزاء، وهذا هو الغرض الأقصى من النظر في العلوم الرياضية التي كانوا يُخَرّجون بها أولادَ الحكماء وتلامذةَ القدماء. هكذا مذهب إخواننا الكرام، وفقك الله وإيانا سبيلَ الرشاد إنه رؤوفٌ بالعباد”.

خلاصة تأويلية

هكذا يضيف إخوان الصفا إلى الاحتياج الدنيوي للهندسة احتياجًا آخر ميتافيزيقيًا، فإذا كانت الهندسة لسانًا ينطق بعلم القيامة، فليس المرء قادرًا على السير في طريق الآخرة إلا عن طريق التربية الهندسية التي تجهز النفسَ للمفارقة عن الجسد كي ينجو في الآخرة.

إن الحكمة الهندسية ترشدنا إلى معرفة الله ونجاة النفس فكيف يقال إن قراءتها تضل الفلاسفة وتجعلهم ينكرون وجود الله وصدق النبوة؟ لقد أنقذت رسائلُ إخوان الصفا –على حد تعبير جيوم ديفو– الفلاسفةَ القدماءَ من هذه التهمة، لأن ما قدمته كله من علوم القدماء كان يهدف إلى معرفة الله ونجاة النفس.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم: ميتافيزيقا النجوم (أسطُرُنوميا).

اقرأ أيضاً:

الجزء الواحد والخمسون من المقال

الجزء الثاني والخمسون من المقال

الجزء الثالث والخمسون من المقال

الجزء الرابع والخمسون من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج