العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء السابع والخمسون
المدرسة المشَّائية: (55) إخوان الصفا وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [11]: ميتافيزيقا النجوم (أسطُرُنوميا): التأثيراتُ الخفيةُ للكواكب: السعادات والمناحس
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 56) عن إخوان الصفا وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا النجوم (أسطُرُنوميا) [10]: اشتياق النفس إلى عالم الأفلاك: صورة تقريبية للجنة.
ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.
1. علم النجوم: ضد علماء الفلك الملحدين
قلنا إن هدف إخوان الصفا وغايتهم من دراسة علم النجوم: إن الزهد في الكون المادي الفاني: كون ما تحت فلك القمر، “هاهنا”، هو الطريق إلى سماء كون ما فوق فلك القمر، الكون الإلهي الخالد: الجنة، “هنالك”. لذلك كان إخوان الصفا في موقف مضاد لموقف الملاحدة من علماء الفلك، الذين لا يدركون الجزء الإلهي من علم الفلك، ويقفون فقط عند الجزء المادي من الكون والأفلاك والنجوم. وفي ذلك يصرح إخوان الصفا بقولهم: “وإنما ذكرنا هذه المعاني في هذه الرسالة لأن أكثرَ أهل زماننا الناظرين في علم النجوم شاكّونَ في أمر الآخرة، متحيرون في أحكام أمر الدين، جاهلون بأسرار النبوات، منكرون البعث والحساب، فدللناهم على صحة أمور الدين من صناعتهم، واحتججنا عليهم من علمهم، ليكون أقربَ من فهمهم وأوضحَ لتبيانهم”.
2.علم النجوم: كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سماواته
لا تلوي ميتافيزيقا أسطُرُنوميا عند إخوان الصفا على شيء وتنطلق في رحاب الأكوان والأفلاك العالية محلقةً، فيقررون بكل قوة: “إن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك سماواته، خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه، وتدبير خلائقه، وسياسة بريَّته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه، فعلى هذا المِثال والقياس تجري أحكامُ هذه الكواكب في هذه الكائنات التي تحت فلك القمر، ولها أفعالٌ لطيفةٌ وتأثيراتٌ خفيةٌ تَدِقُّ على أكثر الناس معرفتها وكيفيتها، كما تَدِقُّ على الصبيان والجهال معرفةُ كيفيةِ سياسة الملوك وتدبيرهم في رعيتهم، وإنما يعرف ذلك منها العقلاءُ والبالغون المتأملون للأمور، فهكذا أيضًا لا يعرف كيفيةَ تأثيرات هذه الكواكب وأفعالها في هذه الكائنات إلا الراسخون في العلوم من الحكماء والفلاسفة، البالغون في المعارف الربانية، الناظرون في العلوم الإلهية، المؤيدون من السماء بتأييد الله وإلهامِه لهم”.
إذًا:
إن التأثيرات الخفية للكواكب في الكائنات الفاسدات التي دون فلك القمر وتأثيرها على سعادات الكائنات ومناحسها هي غاية أخرى من غايات دراسة أسطُرُنوميا عند إخوان الصفا.
3. علم النجوم: المُنَجِمُ لا يدعي علمَ الغيب
ويقرر إخوان الصفا –تمشيًا مع العقيدة الإسلامية– أن المُنجّم لا يعرف الغيبَ بما يخبر به من الكائنات. ويوضحون ذلك بقولهم: “واعلم أن كثيرًا من الناس يظنون أن علم أحكام النجوم هو ادعاء الغيب، وليس الأمرُ كما ظنوا، لأن علم الغيب هو أن يعلم ما يكون بلا استدلال ولا عللٍ ولا سبب من الأسباب، وهذا لا يعلمه أحدٌ من الخلق، كذلك لا منجمٌ ولا كاهنٌ ولا نبيٌ من الأنبياء، ولا ملكٌ من الملائكة، إلا اللهُ عزَّ وجلَّ”.
4. علم النجوم: علم مُوجباتِ أحكام الفلك من المخاوف والمصائب
لا يغفل إخوان الصفا –وهذا من تمام عبقريتهم– عن الجانب السيكولوجي/النفسي الناجم عن تأثير دراسة أحكام الفلك، وما يحدثه ذلك العلم بالمستقبل في نفوس العامة من الناس بالمصائب والمخاوف قبل حلولها. وإن ذلك مقصور علمه على الحكماء من الناس وحدهم، فالحكماء حين يعلمون ما سوف يقع من مخاوف ومصائب لا يجزعون ولا يحزنون فلا يأسون على ما فاتهم ولا يفرحون بما آتاهم، وإنما يدركون قدر هذه الدنيا الفانية فيحسنون الاستعداد للآخرة وتهيئة نفوسهم لنعيمها المقيم، وفي ذلك يقرر إخوان الصفا قولهم: “واعلم يا أخي أنه ليس في معرفة الكائنات قبل كونها أصلًا لكل واحدٍ من الناس، لأن في ذلك تنغيصًا للعيش واستجلابًا للهم، واستشعارًا للخوف والحزن والمصائب قبل حلولها، وإنما نظرُ الحكماء في هذا العلم وبحثهم عن هذه السرائر ليُرضوا بذلك نفوسَهم، ويستعينوا بهذا العلم على الترقي إلى ما هو أشرفُ منه وأجلُّ، وزهدت (الحكماء) في الكون في الدنيا فعند ذلك تهون عليها مصائب الدنيا فلا تغتمُّ ولا تجزعُ ولا تحزنُ إذا علمت مُوجباتِ أحكام الفلك من المخاوف والمصائب، كما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب”. وتصديق ذلك قولُ الله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)”.
5. علم النجوم: نهي الفقهاء عن النجوم والفلسفة
ويبين إخوان الصفا لماذا ينهى الفقهاء عن دراسة أسطُرُنوميا، بقولهم: “واعلم أن الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل الورع والمتنسكين قد نهوا عن النظر في علم النجوم، وإنما نهوا عنه لأن علم النجوم من علم الفلسفة، ويُكره النظرُ في علوم الفلسفة للأحداث والصبيان وكل من لم يتعلم علم الدين”.
خلاصة تأويلية
في النظر في الفلسفة وعلم النجوم تأييد للشريعة، وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “فأما من قد تعلم علم الشريعة، وعرف أحكامَ الدين، وتحقق أمرَ الناموس، فإن نظره في علم الفلسفة لا يضره بل يزيده في علم الدين تحققًا، وفي أمر المعاد استبصارًا وبثواب الآخرة وبالعقاب الشديد يقينًا، وإليها اشتياقًا، وفي الآخرة رغبةً، وإلى الله تعالى قُربة”. فهذه خلاصة أسطُرُنوميا إخوان الصفا وميتافيزيقاها العلمية.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم: ميتافيزيقا الموسيقى: جواهر وتأثرات روحانية.
مقالات ذات صلة:
الجزء الثالث والخمسون من المقال
الجزء الرابع والخمسون من المقال
الجزء الخامس والخمسون من المقال
الجزء السادس والخمسون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا