العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الرابع والخمسون
المدرسة المشَّائية: (52) إخوان الصفا وكتابهم "رسائل إخوان الصفا": ميتافيزيقا العلوم [8]: ميتافيزيقا الهندسة (الجُومَطْرِيا): الهندسة الحسية والهندسة العقلية
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 53) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [7]: ميتافيزيقا العدد (الأرثماطيقي): الرفض الرياضي للتعصب بين البشر.
ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.
1. الرسالة الثانية: علم الهندسة (جُومَطرِيا)
يبين إخوانُ الصفا، في الرسالة الثانية، من رسائلهم، من القسم الرياضي، الموسومة بجُومَطرِيا، في المدخل إلى الهندسة، الهندسةَ الحسيةَ والعقليةَ، ويستوفون الكلامَ في الخطوط والأشكال والزوايا التي لا بد للمهندسين أن يعرفوها. وهدفهم: استكمال رؤيتهم الرياضية الميتافيزيقية إلى الوجود.
2. الهندسة: الحسية والعقلية
بدايةً يقسم الإخوان علم الهندسة قسمين: حسية وعقلية. وفي ذلك يقولون: “واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الهندسة، يقال على نوعين: عقلية وحسية”.
الهندسة الحسية: “فالحسية هي معرفة المقادير (الخط والسطح والجسم) وما يعرض فيها من المعاني، إذا أُضيف بعضها إلى بعض، وهي ما يُرى بالبصر، ويُدرك باللمس”.
الهندسة العقلية: “والعقلي بضد ذلك، وهو ما يُعرف ويُفهم، فالذي يُرى بالبصر هو الخطُ والسطحُ والجسمُ ذواتُ الأبعاد وما يَعرض فيها، كما أن الثقل في الثقيل لا يعرف إلا بالعقل، والثقل عين الثقيل”.
الأبعادُ العقليةُ صفاتٌ للمقادير الحسية: الخطوط والسطوح والأجسام: “والمقادير ثلاثة أنواع وهي: الخطوط والسطوح والأجسام”.
3. الهندسة: اعتمادُ الصنائع كلِها عليها
“وهذه الهندسة تدخلُ في الصنائع كلها، وذلك أن كلَ صانعٍ إذا قدر في صناعته قبل العمل، فهو ضَرْبٌ (نوع) من الهندسة العقلية، فهي معرفة الأبعاد، وما يعرض فيها من المعاني، إذا أُضيف بعضُها إلى بعض، وهي ما يُتصور في النفس بالفكر، وهي ثلاثة أنواع: الطول والعرض والعمق. وهذه الأبعاد العقلية صفاتٌ لتلك المقادير الحسية، وذلك أن الخط هو أحد المقادير، وله صفة واحدة، وهي: الطول حَسْبُ. وأما السطحُ، فهو مقدارٌ ثانٍ، وله صفتان، وهما: الطول والعرض. وأما الجسم، فهو مقدار ثالثٌ، وله ثلاثُ صِفاتٍ، وهي: الطول والعرض والعمق. واعلم أن النظر في هذه الأبعاد مجردة هي صناعة المُحققين”.
4. النقطةُ: أصلُ الهندسة
إذا كان الواحد أصل العدد فإن النقطة أصل الهندسة. وفي ذلك يقول الإخوان: “ونريدُ أن نبينَ ونذكرَ في هذه الرسالة أصلَ الهندسةِ التي هي أصل المقادير الثلاثة، وكمية أنواعها وخواص تلك الأنواع، وكيفية نشوئها من النقطة التي هي رأس الخط، أو طرف الخط أي نهايته. وأنها –النقطة– في صناعة الهندسة مثلُ الواحد في صناعة العدد، فنقول: السطوح هي نهايات الأجسام، ونهاياتُ السطوحٍ الخطوطُ، ونهاياتُ الخُطوطِ هي النُّقَطُ. وذلك أن كل خطٍ لا بدَّ أن يبتدئَ من نقطةٍ وينتهي إلى أخرى، فكل سطحٍ ينتهي إلى خطٍ أو خطوطٍ، وكل جسمٍ فلا بدَّ من أن ينتهيَ إلى سطحٍ أو سطوحٍ”.
النقطةُ الحسيةُ: أصلُ الخطِ الحسي
“إن النقطة الحسية إذا انتظمت ظهرَ الخطُ بحاسة النظر مثل هذا: (…) فإنا لا نقول إن هذه النقطة شيءٌ لا جُزءَ له، لكنَّ النقطةَ العقليةَ هي التي لا جُزءَ لها”.
الخطُ الحسيُ: أصلُ السطحِ الحسي:
“ونقولُ أيضا الخطُ أصلُ السطحِ، كما أن النُّقطةَ أصلُ الخطِ، وكما أن الواحدَ أصلُ الاثنين، والاثنان أصلٌ لعددِ الزوج، كما بينا قبل ذلك (في رسالة العدد)، وذلك أن الخطوط إذا تجاورت ظهرَ السطحُ لحاسة البصر”.
السطحُ الحسيُ: أصلٌ الجسمِ الحسي:
“ونقولُ إن السطحَ أصلٌ للجسم، كما أن الخطَ أصلٌ للسطح، والنقطةَ أصلٌ للخط. كما أن الواحدَ أصلُ الاثنين، والاثنانِ والواحد أصلانِ لأول الفرد، كما بينا قبل ذلك (في رسالة العدد)، وذلك إن السطوح إذا تراكمتْ بعضُها فوق بعض ظهر الجسمُ لحاسة النظر”.
5. الهندسة: تزايد الأشكال الهندسية من النقطة
كما يتزايدُ جمعُ العدد من الواحد، يتزايدُ كلُ شكلٍ هندسي من النقطة. وفي ذلك يقول إخوان الصفا: “وقد بينا أن الخطوطَ يظهرُ طولُها لحاسة البصر من النقطة إذا انتظمتْ:
فأقصرُ خطٍ من نقطتين، مثل هذا: ..
ثم من ثلاث، مثل هذا: …
ثم من أربعة، مثل هذا: ….
ثم من عشرة، مثل هذا:
.
..
…
….
وعلى هذا القياس يتزايدُ كما يتزايدُ جمعُ العدد على النَظْم (الترتيب) الطبيعي”.
6. الهندسة: الخطوط والزوايا والدائرة
إذًا كما يتزايد العددُ على النظام الطبيعي من الواحد، تتزايد الأشكالُ الهندسيةُ من النقطة. وبناءً على هذه الحقيقة يعرضُ إخوانُ الصفا للأشكال الهندسية كافة فيعرضون لأنواع الخطوط الثلاثة: المستقيم والمقوس والمنحني. وأنواع الزوايا: المسطحة والمجسمة، والزوايا المسطحة: القائمة والمنفرجة والحادة، وأنواع الخطوط القوسية: المتوازية والمتقاطعة والمتماسة والمنحنية. ويشرحون محيطَ الدائرة، ونصفَ الدائرة، وأكثرَ من نصف الدائرة، وأقلَ من نصف الدائرة. ومركزَ الدائرة هي النقطة التي في وسط الدائرة، وقطرَ الدائرة والوترَ والسهم. ويذكرون السطوحَ والأشكالَ المستقيمةَ الخطوطِ وأنواعها: المثلث والمربع والمخمس والمسدس والمسبع. وعلى هذا الأساس تتزايد الأشكالُ من النقطة كتزايد العددِ من الواحد”.
7. المثلث: أصلٌ للأشكال جميعها
“إن الشكل المثلث –عند إخوان الصفا– أصلٌ للأشكال المستقيمة الخطوط جميعها، كما أن الواحد أصل للعدد جميعه، والنقطة أصلٌ للخطوط، والخط أصلٌ للسطوح، والسطح أصلٌ للأجسام، وذلك أنه إذا أُضيف شكلٌ مثلثٌ إلى شكلٍ آخرَ مثله، حدث من جملتها شكلٌ مربعٌ، وإذا أُضيف آخرُ مثلثٌ حدثَ شكلٌ مخمس، وعلى هذا القياس تحدث الأشكال المستقيمة الخطوط الكثيرة الزوايا من الشكل المثلث إذا ضم بعضُها إلى بعض، وتتزايد دائمًا بلا نهاية كتزايد العددِ من الآحاد، إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعضٍ دائمًا بلا نهاية”.
“وقد تبين أن من الشكل المثلث تتركب الأشكال المستقيمة الخطوط، وأن من السطح تتركب الأجسام، وأن من الخطوط تتركب السطوح، وأن من النقطة تتركب الخطوط، كما أن من الواحد يتركب العدد. فإن النقطة في صناعة الهندسة كالواحد في صناعة العدد، وكما أن الواحد لا جزء له فكذلك النقطة العقلية لا جزء لها”. وهناك النقطة العقلية والخط العقلي والسطح العقلي والجسم العقلي، وهذا كله يمكن توهمه وتصوره في ذهنك، وهو ما يشكل قوامَ الهندسة العقلية عند إخوان الصفا. والهندسة العقلية ورموزها النقطة والدائرة والمثلث صارت كائنات وموجودات ميتافيزيقية شغف بها التوصف الفلسفي خصوصًا عند ابن عربي.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم: ميتافيزيقا الهندسة (الجُومَطْرِيا): جوهر النفس ولغة البعث.
الجزء الواحد والخمسون من المقال
الجزء الثاني والخمسون من المقال
الجزء الثالث والخمسون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا