علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

العنف المقدس .. الجزء الثالث

المقاربة الإلهية والاقتصاد في العنف

إذا كانت أصالة العنف إنسانيًا بمنزلة كشف عن مؤهلات العنف نفسيًا عند الإنسان، فإن وعي مقتضيات الاجتماع البشري لهي كشف لـمقتضيات العنف اجتماعيًا، إذ إن الاجتماع البشري بطبيعته يقتضي التنازع والمغالبة بين بني الإنسان في ميدانين.

الأول: مادي يقع فيه التنازع على أسباب العيش المادية، الثاني: فكري عقلي يقع فيه التنازع إزاء جدلية التماثل والاختلاف، الأمر الذي يجعل خيار العنف واردًا في التصرفات الإنسانية إزاء الاختلافات الناشئة في هذين الميدانين، ولعل الآية الكريمة قد اختصرت ذلك حينما قالت: “قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ”، فثمة عداوة يقتضيها الاجتماع البشري.

إن ظاهرة تتمتع بهذه الأصالة النفسية وحتمية الوقوع الاجتماعية، تحتاج إلى معالجة عميقة تسعى إلى العمل على أسبابها ومقدماتها في النفس والاجتماع، أكثر مما تسعى إلى استئصال تجلياتها في الواقع والأفعال، فأين وقعت المقاربات العلاجية من هذه الظاهرة “العنف” في تجذرها وأصالتها نفسيًا واجتماعيًا؟!

بدايةً لا بد أن نُفرّق بين مقاربة إلهية ومقاربة إنسانية، فالإلهية مقارنةً بالإنسانية، أكثر شمولية وموضوعية في تشخيصها للعنف، وهو الأمر الذي انعكس على معالجتها له، فكانت أكثر قوة ونجاعة.

أما شمولية المقاربة الإلهية وموضوعيتها على مستوى التشخيص فتتجلى في أمور:

أولًا: اعتراف المقاربة الإلهية بأصالة مقدمات العنف إنسانيًا واجتماعيًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثانيًا: محاصرة المقاربة الإلهية لصور العنف على مستوى موضوعاته بين الأفعال والتصورات، وعلى مستوى طبقاته بين الظهور والخفاء، وعلى مستوى أسبابه بين الظلم والجهل.

ظاهرة العنف

العنف في ضوء مقاصد الشريعة

هذه الشمولية التشخيصية من قبل المقاربة الإلهية انعكست على علاجها قوةً ونضجًا، فوجدناها تعمل في مواجهة العنف بمبدأ: “الاقتصاد في العنف”، والمقصود بـالاقتصاد في العنف: حسن التدبير لمقدماته المفضية إليه من خلال إعادة التدوير لها، إذ إن أصالة هذه المقدمات في الوجود الإنساني تقطع السبيل على استئصالها بالكلية، ومن ثم لا يبقى للوقاية من نتائجها المتمثلة في العنف إلا إعادة توجيه هذه المقدمات النفسية والاجتماعية المُحرِّكة له نحو ما ينفع الناس، بالإضافة إلى منع بواعثه في النفوس، فكانت المقاربة الإلهية أكثر إحكامًا ورسوخًا في مواجهة العنف، وهذا سبب نجاعتها وقوتها.

بيان ذلك أن الشريعة جاءت مُحاوِلَةً ترويضَ بذورِ العنفِ الكامنةِ في النفس الإنسانية تارة وتهذيبها أخرى، أما الترويض فنستطيع أن نرى مثاله في موقف الشريعة من حب التملك بوصفه صفة أصيلة في النفس الإنسانية، وما يمكن أن ينتج عنه من الرغبة في التسلط والمغالبة، فجعلت الشريعة مفهوم “التملك” يقوم على مفهوم “الأمانة” لا مفهوم “الحيازة المطلقة”، فنحن نتملك المال والولد والعلم إلا أنه تملك على جهة الأمانة التي سنُسأل عنها، وليس على جهة الحيازة المطلقة، فعلاقتنا بهذه الأشياء علاقة رعاية أكثر منها علاقة حيازة، وفي ذلك ترويض لـحب التملك الأصيل في النفس الإنسانية، الأمر الذي يقي النفس شرور التسلط  الناتج عن فرط الإحساس بالتملك.

اقرأ أيضاً: النظام الاجتماعي لمكة قبل الإسلام

القرآن والعنف

على مستوى الاجتماع دعت الشريعة الناس إلى التعارف لا التنازع، مبينةً أنه لو كان ثمة رغبة أصيلة في التفاضل بين الناس فلتكن في ميدان التقوى، “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، [سورة الحجرات: 13]، وفي هذا تهذيب لـرغبة التنافس والمغالبة الأصيلة في النفس والاجتماع من خلال توجيهها نحو مجال ينفع الفرد والمجموع، وهو “التقوى”، “وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ”، [سورة المطففين: 26]، وغير ذلك من التعاليم والتوجيهات الشرعية التي تستهدف بالأساس إطفاء حرائق النفس قبل إطفائها لحرائق العالم، مثل إخراج الصدقات والتراحم وفعل المبرّات والحلم والصبر.

ما كل هذه التوجيهات من قبل الشريعة، بالنظر إلى قضية العنف، إلا “إعادة تدوير” لمقدمات العنف الأصيلة في النفس والاجتماع، من خلال العمل على هذه المقدمات تحويلًا وتوجيهًا نحو ما ينفع الناس.

إنْ تجاوَزَ العبدُ كلَّ هذه التوجيهات ووقع في العنف فعلى الآخر ألا يدفع العنف بالعنف خوفًا من الله، “لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”، [سورة المائدة: 28]، فتعلمنا الشريعة بذلك حكمة كبيرة تنفعنا في مواجهة العنف وغيره، ألا وهي أن كل ما هو أصيل في الوجود الإنساني لا يُستأصل، وإنما يُعاد تدويرُه على نحو ينفع الواقع ومَنْ فيه.

فيما يخص المقاربة الإنسانية للعنف

ظاهرة العنف

إن النظرة المادية أو المقاربة الإنسانية للعنف وقعت في فقر تحليلي على مستوى التشخيص، ذلك الذي جرّها إلى ضعف علاجي على مستوى محاصرتها للعنف ومعالجته، إذ إنها –على مستوى التشخيص– لمّا حصرت العنف على مستوى موضوعاته وطبقاته في العنف المادي الظاهر، وغفلت عن أصالة مقدماته في النفس والاجتماع، وقعت في وهم تصوري على مستوى معالجته، مفاد هذا الوهم أن العنف يُستأصل كلية من الواقع بـالمنع لتجلياته دون عمل تحويلي على مقدماته في النفس والاجتماع، أو منع لبواعثه في النفس والواقع من خلال وسائل وأدوات عدة.

هذا الاختلاف بين المعالجتين خَلّف موقفين من العنف:

الأول: إلهي، يرفضه ظاهرًا وباطنًا، عملًا ونظرًا، يعترف به وجودًا ويسعى إلى تهذيبه وتحويله عملًا وتربيةً وجهادًا.

والثاني: إنساني، يرفضه ظاهرًا ويقع فيه باطنًا، يدّعي استئصاله، وهو في الحقيقة باقٍ، بل إنه يتطوّر في شكله وأدواته، فتكون محصلة هذه المقاربة الإنسانية: العنف المطوّر، وهو عنف متستر يجعل للصورة حقيقتين: الأولى ظاهرة خالية من العنف، والثانية باطنة العنف يسري في كيانها طولًا وعرضًا، سطحًا وعمقًا.

لا بد أن أشير إلى أن هذا العنف المُطوّر أو المتستر أخطر من العنف الظاهر أو المادي، إذ إنه يولّد سلسلة لا تنتهي من العنف والعنف المضاد، فتمتلئ حياتنا بالعنف دون أن نعرف له سببًا أو نهاية.

اقرأ أيضاً: نظريات علم الاجتماع على ميزان العقل

لماذا تزداد ظاهرة العنف؟

لنخلص من هذا إلى معادلة معرفية تقول: “إذا كانت المقاربات الإنسانية بفقرها تشخيصًا وعلاجًا قد خلّفت عنفًا مطورًا أقسى من العنف الأصلي أو البسيط، فإن المقاربة الإلهية بغناها وعمقها خلّفت لطفًا لا عنف فيه”.

إلا أن ما أقوله هنا بقدر ما يكشف غنى المقاربة الإلهية مقارنة بغيرها، يطرح في المقابل سؤالًا مُشْكِلًا: كيف نقول ذلك ونحن نرى الذين ملؤوا حياتنا إرهابًا في الأفعال، وتطرفًا في الأقوال، يدّعون الانتساب إلى منهج الله؟ فمن أين تسرب إليهم العنف، والنسبة إلى منهج الله تقتضي نفي العنف عن صاحبها؟!

إن هذا السؤال ينقل حركة التنقيب والبحث في كلامي من دائرة العنف وما يُغذّيه في سلوك العنيف إنسانيًا واجتماعيًا إلى دائرة أخرى أضيق وأخص من الأولى، وهي دائرة العنف وما يُغذّيه في شعور وتصورات فاعل الطاعات.

كيف يكون هذا؟! هل يمكن أن تكون الطاعة إذا ما أصابها خلل ما، سبيلًا لتقوية العنف في نفس الطائع، ليصير عنفه “عنفًا مقدسًا” أي يتمتع في نظر صاحبه بمشروعية؟

الإجابة نعم، وهذا ما سيأتي مُفصّلا فيما هو قادم بإذن الله.

يتبع.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

هل نحن شريرون بطبعنا؟!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د . أحمد عزت عيسى

مدرس بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، قسم النحو والصرف والعروض