مقالات

اللغة وفلسفتها .. الجزء الثاني

انتهينا في الجزء الأول من هذا المقال إلى أن البحث في أصل اللغة لم يعد يمثل محورًا أساسيًا من محاور البحث الفلسفي، لا سيما بعد أن أعلن بعض علماء اللغة والأنثروبولوجيا أن أبسط إجابة عن السؤال الخاص بكيفية نشأة اللغة هي أننا لا نعرف كيف نشأت اللغة، وليس من المرجّح أننا سنعرف ذلك في يوم من الأيام!

نظريــة العلامــات

نتيجة لذلك اتجه الباحثون إلى التركيز على محور آخر أكثر أهمية، ألا وهو طبيعة اللغة وخصائصها ومكوناتها. ومــن هذا المحـور انطلقت نظريــة العلامــات أو«السيميوطيقا» Semiotics التي أصبحت فرعًا مستقلًا من فروع الفلسفة يعنى بدراسة الجوانب المختلفة للتواصل اللغوي ومشكلاته.

أما عن موضوعات هذا الفرع الفلسفي المستقل، فيرجع الفضل في تمييزها إلى الفيلسوف الأمريكي تشارلز موريس “Charles W. Morris” (1901 – 1979)، الذي قدم في كتابه أسس نظرية العلامات ” Foundations of the Theory of Sings ” سنة 1938 قسمته الثلاثية المشهورة للمباحث الأساسية لفلسفة اللغة، وهي على الترتيب: مبحث التراكيب اللغوية أو نظم الجُمـل السينتاكس “Syntax”، ومبحث الدلالات أو المعاني السيمانطيقا “Semantics”، ومبحث أفعال الكلام البرجماطيقا “Pragmatics”.

مبحث التراكيب اللغوية

يهتم المبحث الأول بدراسة القواعد النحوية والمنطقية التي تجعل تسلسل الكلمات في وحدات أكبر أمرًا مقبولًا وممكنًا من الناحية الصورية. ولذا يُطلق عليه برتراند رسل “B. Russell” (1872 – 1970) اسم النحو الفلسفي “Philosophical grammar”، في حين يسميه رودلف كارناب “R. Carnap” (1891 – 1970) التركيب المنطقي للغة “Logical syntax of language”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يشير المعنى الأصلي لكلمة سينتاكس كما تورده قواميس اللغة الإنجليزية إلى: “تنظيم الأجزاء أو العناصر تنظيمًا نسقيًا أو ترتيبيًا”. وبمضي الوقت صار استخدام هذا اللفظ أكثر تخصصًا، وأصبح معناه المقبول عادة هو: “تنظيم الألفاظ في صور وأشكال مناسبة تُظهر ارتباطاتها وعلاقاتها داخل الجملة أو العبارة”، هذا من الوجهة النحوية.

أما من الوجهة المنطقية فتشير الكلمة إلى القواعد التي تحكم علاقات الرموز المنطقية. ويوجد صنفان من هذه القواعد، يتحكم الصنف الأول منها في بناء القضايا ذات التكوين الصحيح، ويُعرف باسم قواعد التكوين “Concatenation rules”، في حين يحدد الصنف الثاني لحظة إمكان تسمية القضية باسم القضية المترتبة على ما قبلها أو القضية التي تتبع ما قبلها، ويُعرف باسم قواعد التحويل “Transformation rules”.

مبحث علم الدلالة السيمانطيقا

السيميائية عند بيرس - اللغة وفلسفتها .. الجزء الثاني

أما مبحث السيمانطيقا فتنصب دراسته على معاني الكلمات والجمل وما يرتبط بتلك المعاني من اعتبارات تحول دون وضوحها، مثال تعدد المعنى “Polysemy”، والاشتراك اللفظي “Homonymy” (أي اشتراك كلمات معينة في الصيغة الإملائية واختلافها في المعنى.

ومثال ذلك في الإنجليزية كلمة Ear، إذ قد تعني أُذن = أداة السمع، أو مقبض أو سنبلة قمح) والترادف “Synonymy”، والانضواء “Hyponymy” (علاقة احتواء مفهومة ضمنيًا تربط بين الكلمات من حيث المعنى، فمثلًا كلمة Red = أحمر تتضمن ألوانًا أخرى مثل Vermilion = قرمزي، وScarlet = زنجفري).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أهمية تفسير ماهية المعنى

فمن المعهود في اللغة أن الكلمة الواحدة يمكن أن يكون لها إطار من المعاني المختلفة، وهو ما تكشف عنه نظرة عجلى في أي معجم. وتلك مشكلة تلقي بظلالها على اللغات الخاصة أو الاصطناعية “Artificial” للعلم بالدرجة الأولى –رغم الحرص على تحديد معنى المصطلح بحيث يكون وحيد الدلالة– إما نتيجة لتغير معنى المصطلح مع تنامي المعرفة بالموضوع،

أو كنتيجة لزحزحة بعض المصطلحات عن مدلولاتها الأصلية للتعبير عن مدلولات أخرى مختلفة تمامًا، الأمر الذي ينجم عنه تزاحم الألفاظ واختلاط المفاهيم داخل إطار العلم الواحد.

إزاء ذلك تسعى أية نظرية سيمانطيقية إلى تفسير ماهية المعنى أولًا، ثم إلى تصنيف التعبيرات التي يمكن القول إنها ذات معنى، وتلك التي تخلو من المعنى، ومن ثم تمييز القضايا الصادقة والكاذبة. هذا إضافة إلى فحص العلاقات القائمة بين كلمات اللغة من جهة، وفيما بين هذه الكلمات وما تشير إليه من موضوعات من جهة أخرى.

اقرأ أيضاً:

من الجوانبِ الاجتماعيةِ في مشكلةِ تراجع ِاللغةِ العربيةِ الفصيحةِ

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تناقص اللغة تناقص في الإنسانية

نحو فهم أشمل للغة وفلسفتها

مبحث البرجماطيقا

أما مبحث البرجماطيقا فيتناول بالدراسة أنماط استخدام الكلمات والعبارات وعلاقاتـها بالسياق أو الحدث التواصلي “Communicative event” بين كل من المتكلم والسامع، فاللغة الإنسانية –كما بيّن فتجنشتين في كتابه مباحث فلسفية “Philosophical Investigations”– تفي بعدد كبير من الوظائف،

لعل أهمها تلك الوظيفة الأداتية التي ينجم عنها إجراءات فعلية في عالم الواقع، أو بعبارة أخرى، تلك التي بالنظر إليها نصف الرسالة اللغوية المنطوقة بأنها تؤدي إلى فعل شيء ما.

حين نركزّ على هذه الوظيفة فإنما نركزّ على البواعث القصدية، والرغبات، والاعتقادات، …، التي تكتنف المتكلمين باللغة في مواقف جزئية معينة تتحقق من خلالها عملية التواصل، وهو ما يعني اتساع مجال الدراسة البرجماطيقية لتجمع بين الفلسفة، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا، بالإضافة إلى علم اللغة الأعصابي “Neurolinguistics” وعلم اللغـة الاجتماعي “Sociolinguistics”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نظرية أفعال الكلام عند جون أوستن

ما هي اللغة العربية معلومات غريبة عن اللغة العربية 722x400 1 - اللغة وفلسفتها .. الجزء الثاني

رغم تعدد محاور البحث تلك، إلا أنها اكتسبت بُعدًا فلسفيًا خاصًا حين ابتكر الفيلسوف الإنجليزي جون أوستن “J. L. Austin” (1911 – 1960) مصطلح المنطوقات الإنجازية “Performatives” –في كتابه أوراق فلسفية “Philosophical Papers” المنشور بعد وفاته سنة 1961– ليُميز به بين تلك المنطوقات التي تنطوي على تقريرات يمكن القول إنها صادقة أو كاذبة، وتلك التي تنجز أفعالًا معينة، كالوعد، والرهان، والنصيحة، والزواج، إلخ، ومن ثم لا توصف بالصدق أو بالكذب.

انطلاقًا من هذا التمييز وضع أوستن نظريته العامة في استخدامات اللغة، أو ما أطلق عليه اسم أفعال الكلام “Speech acts”، مُعرفًا هذه الأخيرة بأنها تلك الأفعال المنجزة بتعبيرات منطوقة. وبهذه النظرية التي عانت وما زالت تعاني تطويرًا وتعديلًا، باتت لدينا أربعة أنماط مميزة للأفعال الكلامية.

أنماط الأفعال الكلامية

وهي على الترتيب: أفعال النطق “Utterance acts” (أو الأفعال التعبيرية “Locutionary acts”)، مثال الهمس والصياح والأنين وغيرها من الأصوات أو التعبيرات المُصنفة نواتج لأي مصدر صوتي، وتليها الأفعال الأداتية “Illocutionary acts” ذات المدلول الإنجازي،

مثال الوعد والوعيد والقَسَمْ والسؤال، ثم الأفعال المؤثرة “Perlocutionary acts”، وهي تلك التي تنتج تأثيرات مقصودة في السامع، مثال الفزع والخداع والإقناع، وأخيرًا الأفعال القضائية “Propositional acts”، وهي المنطوقات التي تنطوي على إشارات أو إسنادات خبرية.

عناصر الاتصال اللغوي

بقي أن نشير إلى أن تمييز هذه الأفعال الكلامية، وتفسير الدور الذي تؤديه في عملية التواصل الإنساني، يعتمد الآن على ما يُعرف بنموذج الرسالة اللغوية “The model of linguistic message”، وهو أحدث محاور البحث البرجماطيقي وأكثرها شيوعًا في وقتنا الراهن، وإن كان يرجع بجذوره إلى الفيلسوف الإنجليزي جون لوك “J. Locke” (1632 – 1704).

فحوى هذا النموذج أن عملية التواصل اللغوي تستلزم ثلاثة عناصر مترابطة: أفعال المتكلم المُرسل لرسالة صوتية ذات شفرة معينة، وأفعال السامع المُستقبل، ومجرى الموجة الصوتية بينهما قناة التوصيل. ومن ثم يكون التواصل ناجحًا إذا أمكن للسامع حل شفرة الرسالة الصوتية المرسلة.

إن اللغة وفقًا لهذا النموذج تبدو كجسر –أو كعربة توصيل– لنقل الأفكار الخاصة من المتكلم إلى السامع داخل رسالة صوتية ذات دلالة محددة.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية

مقالات ذات صلة