إن المعرفة في جوهرها محاولة إنسانية تسعى إلى فهم الظواهر والتنبؤ بمساراتها، بيد أن الفهم بوصفه “عملية” لا يكتمل للمرء إلا بتحليل الظواهر، وهذا التحليل بدوره تحكمه أمور تفرض على إجراءاته ترتيبًا معينًا ومن ثم تؤثر في نتائجه، تلك التي تتمثل في التصورات المتكونة بشأن موضوع الدراسة.
بعبارة أخرى: ثمة تناغم بين ما هو “داخل المعرفة” من أدوات علمية مثل: التعريف والتصنيف والتحليل، وما هو “خارج المعرفة” من مناخ حضاري ومعرفي، وأغراض محركة للعملية المعرفية برمتها.
إن هذا الأخير المتعلق بـ”خارج المعرفة” محصلة القيم الخُلُقية المُوجِّهة للمقاربات العلمية، تلك القيم التي تمثل اليد الرّاسمة لسُلّم أولويات المقاربة العلمية، إذ إن لكل خطاب معرفي نظري رهاناته العملية التي تجعل الإنسان المنجِزَ لهذا الخطاب المعرفي في رصده لعناصر الظاهرة المدروسة وتحديد وظائفها، مضخمًا لهذا الجانب أو ذاك، وفق أهدافه العملية، ولذلك ثمة قدر من النسبية في تمثل أي نظرية علمية لواقع ظاهرة ما.
إن هذا الارتباط بين المعرفي والمقاصدي، يعني أن المعرفة التي تسيرها أغراض عملية تختلف اختلافًا بينًا في عمقها عن المعرفة التي تسيرها أغراض نظرية، إذ إن الأولى بحكم عمليتها ستكون أقرب إلى الواقعية والثانية بحكم نظريتها ستكون أقرب إلى التأملية الفلسفية.
وعليه أستطيع أن أقول: لما كان النص القرآني شهادة على معنى به ينتظم أمرُ الدنيا والآخرة، كان لشمولية هذا المعنى أثر في العمل العلمي المنجز في ظل هذا النص الكريم، إذ إنه (أي: القرآن) جعل هذا العمل العلمي مشروعًا حضاريًا، بمعنى: أن القيم الخلقية العملية التي يحملها هذا الكتاب الكريم، هي الصانعة للقيم النظرية العقلية المستخدمة في هذا العمل العلمي.
إن تأثير هذه القيم العملية في صناعة المعرفة النظرية، يزداد وضوحًا بمعرفة أن تقسيم الظاهرة المدروسة إلى أجزاء داخل عقل الباحث إنما يحدث في ظل أفق عقلي، تسيطر عليه قيم معينة تضرب بجذورها فيما هو ثقافي وديني، إذ إن ثقافات معينة تُغلِّب في بحثها العلمي القيم النظرية التأملية، وأخرى تُغلِّب القيم العملية، بحيث يكون النظر عند هذه الأخيرة، نظرًا عمليًا أكثر منه نظرًا تأمليًا فلسفيًا.
الأمر الذي يعني أن النص القرآني كان سياجًا حاكمًا وهاديًا ومؤثرًا على عملية التنظير والتنظيم للدرس العلمي المنبثق عن هذا الكتاب الكريم بخاصة في بدايات هذا الدرس العلمي التاريخية.
للحديث بقية…
مقالات ذات صلة:
المعرفة الإيجابية بين العلم والثقافة
المعرفة الحدسية المباشرة: نفسيًا وفسيولوجيًا
السياج الأخلاقي القيمي وأزمة التربية العربية
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا