مقالات

المعرفة الإيجابية بين العلم والثقافة

إذا كان من الممكن أن نستوعب فكرة “الفن للفن” فإنه لا يمكن أن يقبل عاقل فكرة “العلم للعلم”، فمثل هذا القبول ينزع عن المعرفة دورها في خدمة البشرية، ويحولها إلى قلائد للزينة، أو يجعلها مطية لخدمة الكسالى المتنطعين، الذين يتوسلون بالعلم للتباهي على الآخرين باستعراض المعلومات والمعارف والأفكار، أو يستخدمونه في ممارسة فن الجدل، مثلما كان يفعل السوفسطائيون، الذين اعتنوا بتعليم الناس فن الخطابة والبلاغة، لا لكي يصلوا إلى الحقيقة، التي كانت عند هؤلاء السوفسطائيين نسبية لا يمكن بلوغها، أو الوثوق بها، بل ليكون بوسعهم أن ينتصروا على خصومهم في المناقشات العقيمة، التي يستعرضون فيها مهاراتهم اللفظية.

وقد حاربهم سقراط حربًا لا هوادة فيها، وحذر الناس من تأثيرهم السلبي على الأخلاق والحياة، وفضحهم أفلاطون في محاورات أسماها بأسمائهم. وجاءت الأديان السماوية لتمنع الجدل غير الخلاق، الذي لا يروم تقدمًا في الفهم، ولا ارتقاء في الإدراك، ولا بحثًا عن الحق والحقيقة، وبينت ضرر المراء، الذي يضيع الجهد ويستنزف الطاقة العقلية فيما لا جدوى منه، ويفسد ذات البين، فيؤذي سلامة الجماعة وسكينتها.

إلا أن السوفسطائيين على وضعهم المزري أرحم بكثير من قوم يستغلون العلم في إيذاء الآخرين وتدميرهم، مثل الذي اخترع القنبلة الذرية وأترابه ممن توصلوا إلى الأسلحة الفتاكة، أو مثل الذي يستخدم طرق علم النفس ومناهجه في تعذيب السجناء والمعتقلين السياسيين وغسل أمخاخهم، أو هذا الذي يستغل أساليب الإعلام وطرائقه في تزييف وعي الناس وتضليلهم والدفاع عن الباطل وتزيينه، أو من يستخدم طرق التحليل الاقتصادية في الاستغلال والاحتكار، أو ذلك الذي يستغل علوم الأديان في تبرير عقده النفسية ومصالحه الشخصية، أو لخدمة التوجه السياسي لجماعة معينة، مهما كان في هذا من ضرر بالدين في سموه وجلاله ورسوخ تعاليمه.

لا يقل علماء اليوم بعضهم عن السوفسطائيين ضررًا بالناس، وخطرًا على الحياة، وأقصد هنا علماء الجينات بعضهم، الذين يريدون أن يذهبوا بنا إلى كارثة محققة تتمثل في استنساخ الإنسان، باسم التجارب العلمية المباحة تمامًا، من دون أي كابح من دين أو ضمير أو حق اجتماعي، وباسم ضرورة انفتاح العلم على الاحتمالات كلها، واقتحامه للمناطق والمجالات كلها، مهما كان الثمن. فمثل هذا النوع من العلم، رغم تقدمه التقني الرهيب الذي يثير الإعجاب، سيلحق ضررًا بالغًا بالفرد والمجتمع على حد سواء، إذ إنه سيبخس من قيمة الإنسان، ويورثه أمراضًا نفسية وعضوية لا أحد يعرف مداها، ويقلل من احترام الحياة الإنسانية، ويفتح الباب على مصراعيه لتحويل الإنسان إلى سلعة رخيصة في سوق نخاسة من نوع جديد، وقد تستغله حكومات مستبدة وعصابات منظمة في أغراض شريرة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا رابليه: “إذا لم يقترن العلم بالضمير أدى إلى خراب النفس”. ومستغلو العلم في الشر إن تمادوا في غيهم فإنهم سيؤدون إلى خراب المجتمع، بل خراب العالم برمته، بدءًا بإفساد القيم وتشيؤ الإنسان، وانتهاء باستخدام السلاح الذري الفتاك في إهلاك النسل والحرث، وهو السلاح الذي تقيأ مخترعه روبرت أوبنهايمر، حين أدرك حجم الدمار الذي يترتب على استخدام القنابل الذرية، مثلما خجل ألفريد نوبل من نفسه، وأراد أن يكفر عن فعلة اختراع الديناميت الشنعاء، فأوقف جزءًا من ماله، ليخصص لمنح جوائز لمن يبدعون ويقدمون أعمالًا تنفع البشرية.

هناك بين الأفراد من يتعامل مع العلم إما بوصفه محض وسيلة لتحصيل الرزق، أو تحقيق المكانة الاجتماعية. والدول والحكومات نفسها بدأت تربط التعليم بالمصالح المباشرة، أو بحاجة سوق العمل، كي تجهز كوادر مدربة وماهرة لتلبية احتياجات عملية الإنتاج، في عنصرها البشري. وهذه درجة إيجابية مقبولة، مقارنة بوضع السوفسطائيين ومن يحذو حذوهم، لكنها ليست كافية في حد ذاتها لأن تكون مقصدًا أخيرًا وغاية نهائية للعلم.

وهناك من ينظر إلى العلم بوصفه رسالة جليلة خالدة، وهو إن استفاد من العلم في تحصيل منفعة مادية أو بلوغ مجد ومكانة بين الناس، فإن هذا لا يجنح به أبدًا عن هدفه الأساسي ومقصده الرئيسي، وهو أداء رسالة حيال مجتمعه، باعتبار “العلماء ورثة الأنبياء” وعليهم ما على الرسل من تكليف في هداية الناس إلى الحقيقة والحق والخير والصواب.

وهنا يكون العلم في بعده الأخروي طريقًا للبحث عن الحقائق المطلقة والمثل العليا في هذا الكون، وفي جانبه الدنيوي وسيلة لتقدم البشرية وإسعادها، ابتداء من الدفاع عن القيم النبيلة الراسخة، والارتقاء بالسلوك الإنساني، وانتهاء بالمضي قدمًا في تطوير المخترعات الحديثة التي تخدم الناس في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل حياتهم أسهل وأيسر.

فلا يمكن أن تكون هناك فلسفة ولا علم يستحق أن يحمل هذا الاسم من دون أن يكون له بعد إنساني جلي، وتعريفات العلم، بشقيه الطبيعي والإنساني، تدل على هذا القصد بوضوح تام، فهو مجموعة المعارف الإنسانية التي من شأنها أن تساعد على زيادة رفاهية الإنسان، أو مساعدته في صراعه من أجل البقاء، أو هو مجموعة الخبرات الإنسانية التي تجعلنا قادرين على فهم الظواهر التي تجري في الكون الفسيح، والتنبؤ بمسارها ومصيرها. وهنا يتجلى العلم في أكمل صوره حين يرتبط بغاية نبيلة، نسعى إلى بلوغها عبر سلوك هادف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد فطنت امرأة عربية بسيطة في مطلع القرن الثاني الهجري إلى ضرورة التلازم بين العلم والسلوك، وهي أم الفقيه وراوي الحديث الشريف “سفيان الثوري”، إذ أوصته قائلة: “يا بني خذ هذه عشرة دراهم، وتعلم عشرة أحاديث، فإذا وجدتها تغير في جلستك ومشيتك وكلامك مع الناس، فأقبل عليه، وأنا أعينك بمغزلي هذا، وإلا فاتركه، فإني أخشى أن يكون وبالًا عليك يوم القيامة”.

مخالفة هذه النصيحة الغالية أدى إلى حال من الفصام النكد بين المعرفة والسلوك في حياتنا الجارية، فأصبحنا نشهد أساتذة جامعيين وقد تحولوا إلى تجار، لا يعنيهم العلم إلا بمقدار ما يفيدهم في تحصيل المال، ولا تؤرقهم الرغبة في المعرفة والاكتشاف، إلا بقدر ما تمنحهم مزية في منافسة نظرائهم على جلب الزبائن. وصرنا نرى فقهاء وقد تحولوا إلى أبواق لخدمة أصحاب المال والسلطان، فيطوعون النصوص الجليلة لخدمة هذه الأغراض الدنيئة، ولا يهمهم أن ينهضوا بما عليهم من تبعة ومسؤولية حيال مجتمعهم، ولا يضنيهم غضب الله منهم، لأنهم لم يحسنوا استعمال هبة العلم والفقه التي وهبها لهم، وذللها لأفهامهم وبصائرهم.

بتنا نرى إعلاميين يعرفون الحق وينكرونه، ويوظفون ما تعلموه من أساليب الإقناع ومسارات البرهان وأبنية الحجج في الدفاع عمن يدفع لهم، ولمن يخلع عليهم الألقاب، ويمنحهم المناصب والأموال. ونرى كل يوم أطباء وقد صاروا “ملائكة عذاب”، يسرهم انتشار الأمراض، ويتخذون من علمهم مطية للاستفادة من آلام الناس وأوجاعهم في جمع الثروات. ونرى محامين يستعملون علوم القانون وطرائقه في تبرئة الظالم، وعقاب المظلوم، ولا يهز ضمائرهم صوت العدل، الذي أقسموا أن يرفعوه، ولا يضيرهم إعلاء شأن الباطل، الذي أقسموا أن يخسفوا به وبأصحابه الأرض.

هذه الصور القبيحة كلها تفوق في بشاعتها حتى من وظفوا العلم في الجدل العقيم والمتع الذهنية الزائلة، لأنها نتاج تصور فاسد لا يرى في العلم سوى أنه وسيلة لتحقيق مآرب غير خيرة، وغير شريفة.

مقالات ذات صلة:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الألقاب العلمية في بلادنا العربية

المعرفة الحدسية المباشرة: نفسيًا وفسيولوجيًا

كثير من المعرفة وقليل من الفهم

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري

مقالات ذات صلة