مقالات

صاحب “العصا” الذي دخل عليهم وعلينا “الباب”

في الثقافة الإسلامية ما نعرفه جميعًا بتعريف جامع ومانع اسمه “البركة”، وهو تعريف مانع لأنه ليس هناك تعريف آخر يدل على معناه، ونعرف أيضًا من القرآن الكريم أن الله حين خلق الأرض “بارك فيها”، ووعد سبحانه البشر بأن يفتح لهم من “بركات من السماء والأرض” في حال استقامتهم على فطرتهم الإنسانية في جانبها الأحسن وتغليبه على جانبها الأسوأ وَعدًا نهائيًا ومطلقًا.

ما أوسع المعنى وما أضيق العبارة كما يقولون، معانٍ كثيرة، في آخر كتاب نزل من السماء إلى الأرض، تضيق عنها الألفاظ والعبارات، ويشاء الله العظيم بفضله أن يجعل للبشر في الأرض أبياتًا وبراهين تدلل على ما قد تتحير فيه عقولهم.

وما أكثر العقول الحائرة! سيكابد الإنسان في رحلة حياته “معاناة العقل” وبعضهم يفسرون معنى “خلق الإنسان في كبد” بتلك المعاناة العقلية وذاك القلق الوجودي، الذي لن نجده في “القلوب المطمئنة”.

فليست هناك معاناة وليس ثمة قلق، فـ”النور” سيد الموقف، و”الفهم” شقيقه وصديقه و”العرفان” ظلهما الظليل.

قال ربنا في كتابه العزيز تأكيدًا لذلك: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ…” وأترك لكم بقية الآية من سورة النساء، لنتعرف منها على معانٍ ستضيق عنها أعتى العبارات: الرحمة والفضل والهدى.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هذا الحديث ليس حديث دروشة ودراويش، بل حديث من “قلب الحقيقة”، وعلى أصدقائنا “الاستراتيجيين” كلهم الذين يرددون المقولات السابقة التجهيز كلها، الذين بخلوا على أنفسهم بشيء من الـ”مكابدة” في المعرفة القلبية والمعرفة العقلية، أن يتأملوا ما يحدث في الشرق الأوسط، من صبيحة السبت 7 أكتوبر 2023م حتى مساء الأربعاء 16 أكتوبر 2024م  “شهادة صاحب العصا”، ثم يرجعوا بأبصارهم، وينظروا ويتأملوا مرة ثانية ويمدوا النظر إلى يومنا في هذا الزمن الوجودي الذي يعيشه البشر على كوكب الأرض.

نماذج باقية

سنعرف شيئًا هامًا، وسيتبين لنا صحته! وهو أن التاريخ لا يهتم كثيرًا بالوقائع المادية، وأن الموضوع الحقيقي لاهتمامه “الروح الإنسانية”، وعلى التاريخ الاهتداء إلى ما اعتقدته هذه “الروح” وشعرت به وفكرت فيه.

صاحب هذا التنظير العميق المؤرخ الفرنسي فيستيل دي كولانج (ت/1889م)، الذي يعد من أوائل المؤرخين المحدَثين الذين طرقوا ظاهرة “الإيمان” واهتموا بها، وقرأوا التاريخ ليس فقط بوصفه وقائع وأحداث مضت وانقضت، لكن باعتباره “النماذج الباقية” الدائمة المستمرة فينا ودائمة من هذه الأحداث.

له مقولة جديرة بكثير من النظر يقول فيها: “إن العقيدة تُفهم بوضوح أكثر في “أفعال” الإنسان، مما تُفهم من أفكاره”.

وصدَّق على مقولته تلك رئيس الموساد الأسبق إفرايم هاليفي (90 سنة): “أنتم لم تفهموا حماس بعد!”، الرجل مخابراتي عتيق من سنة 1961م، وعمل سفيرًا لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي من 2002م حتى تقاعده.

السير عكس حركة التاريخ

أنا شخصيًا تتملكني كثير من الدهشة وأنا أرى قرارات القيادات في إسرائيل ومواقفها، فإما أنهم في تلك الحالة النفسية الشهيرة “الإنكار” وهذا هو الأغلب، أو أنهم يسيرون فيما يعرفه المؤرخون بدهاء التاريخ، وهو ما يصح أن نقول معه أنهم سيقضون على أنفسهم بأنفسهم لأن هذا “حكم تاريخي” لا بد أن يحدث، وهذا هو أيضًا الأغلب!

لكن المشكلة أن لدينا قطاعًا كبيرًا من الشخصيات البارزة في العالم العربي الرسمي وغير الرسمي حدثت لديهم صدمة، لم ينتج عنها “إفاقة” إدراك ووعي كما يتوقع في مثل تلك الحالات، بل نتج عنها “إعاقة” عقل ونظر، أدت إلى ما يُعرف بالسير ضد حركة التاريخ.

القرآن قدم لنا نموذج فرعون في ذلك، فقد كانت مواقفه كلها التي يتخذها ضد حركة التاريخ، بدأ من موقف السحرة، هو أكثر من يعرف أنهم لا يقومون هنا بدور “الحاوي”، فهو من أحضرهم ليقوموا معه بموقف يتعلق بالسيادة، وانتهاء بموقف مطاردته لسيدنا موسى حتى البحر.

ليس هذا فقط بل قرر المشي على الأرض التي كانت من ثوانٍ معدودة ماء أمام عينيه، إمعانًا منه في المطاردة، ياه يا فرعون! إلى هذا الحد ممكن أن يذهب أحدهم إلى هلاك نفسه بنفسه؟! لهذا ولغيره مما لا نعلمه جعله الله آية.

مشهد صاحب العصا .. السنوار

مفكرنا الفرنسي الراحل لم يرَ صاحب المشهد الكريم بـ”عصاه” التي يضرب بها “الطائرة المسيرة”، لكنه رأى مثله من “عظماء التاريخ” نماذج باقية ومستمرة في هذا التاريخ ووقائعه، تموت أجسادهم وتنتهي أعمارهم، وتبقى “الروح” من بعدهم مستمرة وممتدة ومتسعة، في تأثير أقوى وأثر أعظم مما كان منهم في الحياة، وهو مما عناه “جبران خليل جبران” بقوله لمن يعاديه: “أن الروح فينا جوهر لا يضام”.

سيرة الرجل تقول أنه ليس هناك من هو أكثر دراسة وإلمامًا و فهمًا بتفكير سلطة الاحتلال منه، وفي أغلب الظن كان يعرف أن “المسيَّرة” بها كاميرا تصور مشهده العظيم، وهو مقطوع الذراع الأيمن، ويضرب بعصاه بالذراع الأيسر.

كأنه بأنوار سريرته كان يعلم أن هذه الصورة وهذا المشهد سيصل إلى أقاصي الدنيا، فصدرت منه تلك “الضربة” التي تحمل في حركتها ألف معنى ومعنى وألف رسالة ورسالة، وبما يفوق آلاف المرات محض “التلويح” بها.

سواء كان بذلك يؤكد لأصحابه من بعده أن ما بدأناه سيستمر، أو كان يستدعي “الروح” المؤمنة في الشرق المسلم كله، التي تعي قوله سبحانه: “ما استطعتم”، ويوقظها في نفوس ظنت ما لا يجب من الظن برب العالمين.

أيًا ما كان الأمر، فنحن أمام مشهد لا أدرى كيف مر من أمام أساتذة “صنَّاع الصورة” في أوروبا وأمريكا، وأنا ممن يعتقدون بجزم ويقين أن هذه الحرب علينا “المفتوحة المتعددة” هي حرب أوروبا وأمريكا على الشرق المسلم.

وإسرائيل ليست سوى “عصاهم” التي يضربوننا بها، وكل ما يقال عن الخلافات والتباينات بين إسرائيل وأمريكا وقادة أوروبا محض ضباب إعلامي، به من السخف والسماجة ما يسد عين الشمس كما يقولون.

تقرير بحثي لمعهد واتسون الأمريكي للشؤون الدولية قال إن أمريكا مولت ما يصل إلى 70% من المجهود الحربي للكيان المحتل منذ السابع من أكتوبر بمبلغ إجمالي 22.76 مليار دولار على الأقل، نتنياهو لاعب صغير فقط واللاعب الأهم في واشنطن، وهو المسؤول عن إدارة الحرب والتحكم بها، وعليه تقع مسؤولية ما يُرتكب من جرائم، وبوسعه وقفها في أي لحظة.

ما أقوى التأثير وما أعظم الأثر

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا وضع إيمان أبو بكر في كفة، ووضع إيمان الأمة في كفه لرجحت كفة أبو بكر، وعرفنا أن ذلك ليس بكثرة صلاة وصيام لكن بــ”شيء وقر في صدره”، أهل الطريق إلى الله يعيشون عمرهم كله يبحثون عن هذا “الشيء”!

كانوا يرحلون ويحلون ويذهبون ويجيئون، حتى يحدث لهم “الفتح” بهذا “الشيء”، وساعتها لن يتحدثوا عما حدث لهم من فيوض وإشراقات فذلك محظور على من “عرف”، لكنهم يسلكون في حياتهم مسالك يصفها الناس الطيبون بمسالك “العارفين”، فهم في نور وعلى نور وإلى نور.

قد يكون في لحظة ما من لحظات الزمن والتاريخ “بركة” جعلها الله على أحدهم، فيتجاوز بنظره المدى وطول المدى حتى آخر المدى، ولا يهم هنا أن يعيش ويحيا بجسده، كما قال لنا المؤرخ الفرنسي “كولانج”، الأهم هنا “الروح المستمرة” التي ستحل في ملايين الأجساد من بعده.

وهو ما حدث مع “صاحب العصا” الذي دخل عليهم وعلينا الباب.

اقرأ أيضاً: 

الإنسانية تقتضي المقاومة

القيادة المُلهمة

الثعلب

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول