مقالاتفن وأدب - مقالات

سقروطة … والسُحب … والحقائق المقلوبة!

SOCRATES, the Clouds and the Inverted Truths

السُحب

«السُحب» The Clouds … هي إحدى المسرحيات الكوميدية التي قُدِّمت سنة 423 قبل الميلاد، كتبها الكاتب الإغريقي «أريستوفانيس» Aristophanes 446 – 386 «ق. م.» مُوجِّهًا سهام سُخريته إلى واحدٍ من أكبر وأشهر الفلاسفة الذين جادت بهم البشرية: «سقراط»! ولا عجب أن تجد «سقراط» عبر السطور سوفسطائيًا هادمًا لمنطق الحق مؤثرًا لمنطق الباطل ومروجًا له؛ فقد كان «أريستوفانيس» بوقًا إعلاميًا لمجتمعٍ أتقن الفساد.

مجتمع غَشيه الشك في كل شيء، وأسكره الباطل المتضخم في معية النفس التواقة إلى خلخلة القيم، حتى ليقرر «سقراط» نفسه حضور العرض المسرحي الهزلي لمشاهدته، بل والوقوف طوال مدة عرضه في محاولة لحث المشاهدين على المقارنة بين صورته الحقيقية وصورته الكوميدية، لكن هيهات هيهات، فقد أدانته محكمة المجتمع التائه في غيابات الفوضى بتهمة إفساد الشباب، ولقي حتفه بعد عرض هذه المسرحية بنحو خمسة وعشرين عامًا!

فن الجدل ومنطق الباطل

تبدأ المسرحية برجلٍ مُسنٍ يدعى «ستربسياديس»Strepsiades ، وهو اسم يعني «المُراوِغ»، أثقلته الديون بسبب حذلقة زوجته الأرستقراطية ربيبة الصالونات، وإسراف ابنه «فيدبيديس»Pheidippides الذي يعشق الخيول ولا يفكر إلا في اللهو والفروسية، ويختال بِشَعره المسترسل على كتفيه.

ولا يجد العجوز مخرجًا من مأزقه سوى أن يُعلِّم ابنه الجدل، ومنطق الباطل لدى «سقراط» (السوفسطائي القادر علي قلب الحق باطلاً كما صوَّرته المسرحية).

ولكن الابن يرفض الذهاب لنزقه وعصيانه، فيذهب الأب نفسه إلى مدرسة «سقراط» أو «حانوت الأفكار» بلغة «أريستوفانيس»، وأمام جوقة المسرحية المكونة من «السُحب» بوصفها «ربَّات» يبدأ «سقراط» في تعليم الشيخ، لكن الأخير يُظهر من الغباء حدًا جعله عاجزًا عن التعلم، فقد كان ذهنه دومًا شاردًا في ديونه المتراكمة، لذلك يأمره «سقراط» بإحضار ابنه بدلاً منه؛ لأنه شيخ عجوز كثير النسيان.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وبعد ترغيب وترهيب يقتنع الابن بالذهاب بدلاً من أبيه .. و من ثم يعهد به «سقراط» إلي كل من منطق الحق ومنطق الباطل كي يقوما بتعليمه، ويدور بين المنطقين مشهدٌ جدلي من أمتع ما احتوته المسرحية، ينتهي بانتصار منطق الباطل!

وبعد أن يُتِّم الابن تعليمه يذهب إلى والده ليُنقذه بالفعل من عبء ديونه، فلقد تعلم فن الجدل ومنطق الباطل، ويستطيع الآن أن يُدافع عنه أمام المحاكم، ويدفع عنه أفظع التهم. ولكن هيهات أن ينعم الأب بذلك، فلقد كان من نتيجة تَشَرُّب الابن لتعاليم السوفسطائيين و«سقراط» أنه انقلب على أبيه، فبدأ في ضرب الأب العجوز، والتهديد بضرب الأم بحجة أنهما فشلا في تربيته، سائقًا لفعله تبريرات منطقية تُظهر أن الحق بجانبه.

وقتئذٍ ندم «ستربسياديس» على ما فعل وثاب إلى رشده، وصمَّم على حرق مدرسة «سقراط» . وبهذا الحريق تنتهي المسرحية!

ما وراء المسرحية

تحمل المسرحية الكثير من الدلالات؛ لعل أهمها قوة الإعلام في تشويه الحقائق حتى لتبدو أمام العامة مجرد أكاذيب تُحرض على القتل، فرغم شهرة «سقراط» في المجتمع الأثيني، وحرصه على إعلاء ملكة التفكير، فإن من بين أهم أسباب توجيه الاتهام له فيما بعد هو تصديق من أقاموا عليه الدعوى لإشاعات روَّجها مبغضوه.

إشاعات مفادها أنه رجل آثم يُنهك نفسه ويبدد جهده فيما لا طائل من ورائه، باحثًا فيما هو تحت الأرض وما في السماء، يُعلِّم الناس الجدل وهو يتأرجح متدليًا من سلة في الفضاء، زاعمًا أنه يمشي في الهواء ويهذي بكلامٍ غث لا قيمة له!

أما الضربة الكوميدية الكبرى في مسرحية «السحب» فقد وُجهت للتعليم ورغبات الآباء وللمثقفين برمتهم، إذ يسخر المؤلف فيها من البحث العلمي، مؤكدًا أنه شيء لا طائل منه، بل هو على العكس سلوك منافٍ للأخلاق.

ويظهر المثقفون في هذه المسرحية مخلوقات قذرة متسخة وأشباحًا هزيلة ونسخًا باهتة لأصل زائف هو «سقراط» الذي تُحرق مدرسته في النهاية ويُطرد شر طردة.

خذ هذا المشهد الذي قد تراه الآن واقعًا وتمثيلاً:

– ستربسياديس: (مخاطبًا سقراط بصوت عال): سقراط! عزيزي سقراط! … سقروطة … يا سقروطة (بصوت منخفض وبلطف)

-سقراط: (من فوق السلة) لماذا تناديني أيها المخلوق … أنت يا إنسان يا قصير العمر؟

-ستربسياديس: قل لي أولاً: ماذا تفعل عندك؟ اشرح لي بربك!

-سقراط: أمشي في الهواء، ومن عليائي ألقي نظرة تأمل على الشمس!

-ستربسياديس: إذن فمن هذه السلة، لا من الأرض تلقي نظرة فوقية على الآلهة، وتتأملهم، فماذا لو ..؟

-سقراط: ما كنت لأكتشف من الأجرام السماوية قط إن لم أبحثها، وقد ارتفعت بعقلي إلى أعلى، ومزجت تفكيري الذهني الرفيع بمثيله من الهواء الأثيري الساطع، ولو كان عَليَّ أن أبحث في كل هذه المسائل العلوية وأنا قابع في هذه الدنيا ما كنت لأكتشف شيئًا منها قط. هذا صحيح لأن الأرض بطبيعتها تشد عصارة الذهن إلى أسفل بقوة جاذبيتها، وتفعل مثلما يفعل نبات الجرجير تمامًا؛ إذ يمتص مياه النباتات المجاورة فيقتلها.

-ستربسياديس: ماذا تقول؟ يجذب عُصارة الحياة للجرجير؟ تعال … تعال … انزل الآن فورًا يا سقروطة. انزل لتعلمني الدروس فمن أجل هذا جئتك!
                                                                                     ****

أخيرا

احذروا «أريستوفانيس» و«ستربسياديس»؛ فأمثالهما من حولكم وعلى الشاشات كثير، لا يبحثون عن مجتمع يكفل كرامة الإنسان وحريته وقيمته؛ بل عن مجتمع يَكفل العُري والتخلف وحرية الإفساد في ثوبٍ قشيب!!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

سقراط والمستقبل

سقراط في المدينة…هل من سبيل للرحمة؟

آدم وسقراط والحديث عن الرغبة واليقظة! متى تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية؟

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية