سفسطائيو العرب والبحث عن سقراط!
الطبيعة البشرية واحدة، وإن اختلفت المحليات المكانية والزمانية، وتباينت الثقافات والأديان واللغات والأعراف. تتشابه وقائع ويوميات البشر، وتتدفق أحداث التاريخ ممتزجة بأفكار ورغبات وأفعال الماضي، ليحملها الحاضر إلى المستقبل بكل خياراتها! ولو أردنا وصفا للحالة العربية الراهنة لعدنا أدراجنا إلى الفكر اليوناني القديم، لاسيما الفترة التي شهدت ظهور السفسطائيين (والقياس بالطبع مع فارق البُعد الحضاري للحالتين).
الفكر اليوناني القديم
كان العقل اليوناني في ذلك الوقت قد وصل إلى مرحلة من الشك لم يعرفها من قبل: شك في الفلسفة التي عجزت عن التنظير الناجح لمعاناة الأثينيين وتفسير الكون والحياة، وشك في الدين الذي أصبح مطية لأصحاب المصالح وطلاب المكانة الزائفة، وشك في العلم الذي امتزج فيه العلماء بالأدعياء، وشك في الحياة السياسية التي اشتد فيها الاضطراب وعبثت بها الصراعات من جهة، والثورات من جهة أخرى، والأهواء الشخصية من جهة ثالثة!
شك في النظام الاجتماعي المفتقد للعدالة والقيمة والكرامة والقيم.. شك في كل شيء، وحرص ممقوت على المنفعة الخاصة، وسعي لتهميش الآخر بكافة السُبل، وتكالب على المصالح الوقتية الزائفة، ونفاق لأهل السلطة والمال، وإفلاس لأهل الرأي والثقافة.. إلخ.
في خضم هذا الشك الذي أصاب المجتمع الأثيني برمته، ظهرت الفلسفة «السفسطائية» كمرآة صادقة لحياة فوضوية تنكر كل شيء في ذاته، ولا تعترف إلا بشيء واحد هو المنفعة الفردية الآنية.
كان زعماؤها يطوفون القرى والشوارع ينثرون بذور المنفعة، ويعلمون الناس كيف يلبسون الحق بالباطل، وكيف يعبثون بعقول الأفراد ويغالطون ويخفون الحقيقة في شتى المجالات؛ في السياسة، القضاء، التعليم، دور العبادة، والأسواق.
هل من سقراط آخر؟
وبغض النظر عما إذا كانت السفسطائية فلسفة للهدم أو لإعادة بناء المتهدم، فقد وجدت من يتصدى لها، محاورا ومعلما ومستخرجا للحق من أفواه الأدعياء، كاشفا للزيف المتدثر بالحكمة، إنه سقراط، رجل عاش فلسفته بدلا من أن يكتبها، حوكم زيفا بتهمة زعزعة الاستقرار وإفساد الشباب، تجرع السم ومات في هدوء وسكينة، لكن فلسفته لم تمت! ظلت روحه محلقة فوق أثينا والعالم: اعرف نفسك!
وفي بلادنا يكثر الآن السفسطائيون، تراهم عن يمينك وعن يسارك، من أمامك ومن خلفك، يحيطون بك، ينتزعون عقلك، يهدمون بلا رؤية للبناء. أينما تُولي وجهك في الوطن المكلوم فثمة سفسطائي يغالط، ينكر، يزيف، يلبس الحق بالباطل، يتصدر المشهد، يعد الناس وما يعدهم إلا غرورا..
وتزدهر المأساة بغياب سقراط، بتكبيل يديه، بيأسه، فهل يكابد الفكر الفلسفي العربي الراهن أزمة ممتدة حالت وتحول بينه وبين العطاء الفلسفي؟ إذن كيف ومن المفترض أن بومة مينرفا لا تُحلق إلا عند الغسق؟ وأن الحكمة لا تلتمس بشدة إلا في أحلك اللحظات؟ وهل ثمة لحظات أحلك من تلك التي يعيشها العالم العربي كي تُلتمس الحكمة؟ ومن الذي بيده أن يُنظّر لتجاوز أزمتنا؟ هل من سقراط عربي ولو بعد حين؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
اقرأ أيضا:
آدم وسقراط والحديث عن الرغبة واليقظة!