تحولات الجسد في رواية لحن الصباح .. لمحمد ناجي
إن أكثر ما يضعه الزمن من تأثيرٍ على البشر يكون على أجسادهم، ربما الطبع لا يتغير بسهولة كما يُقال، الروح تظلُّ محافظةً على نقائها مدةً طويلة ثم تسقط في جحيم الشر ولا تغادره أبدًا مهما تبدلت السنين، وكرَّت الفصول، لكن للجسد خصوصية وفرادة في مسألة التحوُّل، وتبدو رحلة الإنسان من ميلاده حتى وفاته رحلة يستعرض فيها الجسد أطواره وتبدلاته وتغيره حتى لحظة الفناء والعودة إلى النقطة صفر؛ نقطة العدم قبل التكوُّن، ليصير الإنسان من “شيء مذكور” إلى الغياب التام لملامح جسده بخلاف ما تبقيه الكاميرات من صورٍ مختلفة لمراحل حياته.
رواية لحن الصباح لمحمد ناجي
في رواية لحن الصباح للروائي الراحل محمد ناجي تتجلى بوضوح تلك التحوُّلات في جَسَدَيْ بطَلَيْ الرِّواية، الأول عبَّاس الأكتع الذي تحوَّل بعد حرب السادس من أكتوبر إلى شبه جسد، “فهو بلا رجلين، الرِّجلان قصتهما الشظايا حتى نهاية الفخذين، وطيّرتْ راحة اليد اليسرى، تركت له راحة اليد اليمنى بإصبعها الوسطى، إليتين خشبيتين يزحف على جلدهما اليابس”.
هذه صفات كاريكاتورية لعبَّاس الذي أحالتْ الحرب جسده إلى هذه الهيئة، وتحوله هذا أدى إلى تحوّل نفسي ألقى بظلاله على روحه، فتارة تراها خفيفة رفرافة، وتارة تجدها سمجة ثقيلة خاصة في مقالِبه التي يضايق بها “نوفل”، وهو الشخصية الأخرى ذات التحول الجسدي الطفيف، إعوجاج في الفم، كان يعمل خطاطًا وتعوَّد على زم شفتيه، ترك المهنة أو هي تركته بعد إصابته بارتعاش يده الدائم، انطبعت هذه على العلامة على فمه، فأصبحت مسار سخرية من عبَّاس.
نوفل ضاع ابنه في الكويت، ومن قبل عانى مرارات خيانة الزوجة، وأيضًا عبَّاس مقطوع من شجرة، لا ذرية له ويسكن في بيت عبارة عن “شق طويل بين بيتين؛ طوله أربعة أمتار وعرضه متر”.
حياة عباس غير آدمية بدءًا من سكنه الذي لا يناسب بشريًا وليس انتهاء بمشيته على راحة يده، وإمساكه الأشياء بأسنانه، حتى ممارسته لفعل الغائط يبدو هزليًا جدًا، يمسك بجذع شجرة مائل، ويتدلى بعد خلع سرواله، مسترخيًا لينفرج ما بين إليتيه ويستريح مما في بطنه، لم تترك شظايا الحرب له شيئًا يساعده على الانفراج، يتساءل في حيرة، “لو قطعوا هذه الشجرة ذات الجذع المائل لصارت مشكلة، فكيف يعملها، وهو معلق في شجرة مستقيمة الجذع؟!”
كيف تفسر هذه المأساة الدامية؟
يسرد الرَّاوي حكايتي عبَّاس ونوفل، لا ليعرض مأساتهما بل ليُبينَ تأثير التحول الجسدي على نفسيهما، فلا تسقط الرواية في ميلودرامية جوفاء، فالسارد يُجلي الروح الساخرة التي يتمتع بها خاصة عباس الأكتع، كأنه لا يعنيه كل ما جرى له، يتذكر أيام اكتمال ذلك الجسد في صورته الفوتوغرافية الموجودة في الشق (بيته) الذي يأوي إليه، وسط زملائه في المعكسر مرتديًا الزي العسكري ويظهر الشريطان الأحمران على ذراعيه.
تمتلئ الرواية بدوال زرعها الكاتب لها دلالات، تكشف ما وراء السرد، وما وراء حكايتَي الشخصيتين آنفتي الذكر، في مدينة ما بعد الحرب، المدينة التي عمَّها سلامٌ وهميٌ أُسقطَ الجوهرُ من حسابات القائمين عليه، وركَّز فقط على المظاهر الخارجية، ولم يُعر اهتمامًا لضحايا تلك الحرب، ومَن صنعوا ذلك النصر الذي تتباهى به الرؤوس الكبيرة “العهد الجديد”، في حين أن أبطاله الحقيقيين “أبطال التحرير” يتخبطون في عاهاتهم.
“عندما استقر في الشق لعبت الفكاهة برأسه، فعلق على المدخل لافتة كتبها له صبيٌ من طلاب المدارس على ورقة رسم: تجارة أبطال التحرير”.
اقرأ أيضاً: الحرب والشرف.. تحديات أخلاقية
حكايات عدة داخل متن الحكاية الأصلية
بين حكايتي الشخصيتين الرئيستين تمتلئ الثغرات في الرواية بعدة حكايات، منها حكاية ويكا صاحبة بقالة “سوبر ماركت العهد الجديد”، وهي تعد همزة الوصل بين عبَّاس ونوفل، ومن دكانها يبدأ بث برنامج لحن الصباح على الراديو الذي يُفتتح به اليوم، وعلى وقعه تبدأ مشاغبات عبَّاس لنوفل، الذي يرى في الأخير دخيلًا على منطقته التي يبيع فيها كلاهما السبح والبخور والمساويك على فرشة صغيرة، تلك المناوشات بين الطرفين تشهدها الحاجة ويكا وتحاول ردم الهوة بينهما وسد الفتق في علاقتهما.
أيضًا راوي الحكايات “فانوس” الشخصية الغائبة الحاضرة التي تروي ثلاث حكايات داخل متن الحكاية الأصلية، كأن ناجي يأبى دائمًا إلا أن يحاكي نسج ألف ليلة وليلة بتأطير روايته بحكاية أم، وفي داخلها تتفرع حكايات صغيرة، ووحدات سردية تخدم الحكاية الأصلية، وتنير درب السرد، تتعلق شخصية ما داخل العمل بهذه الحكايات، تنتظر الأمل والفرج، مثل شخصية نوفل في الرواية تتعلق بحكايات فانوس، حكايتين عن الشيخ المرعشلي وأخرى عن الشيخ ياقوت، وبهما يمنح ناجي روايته بُعدًا أسطوريا، وذلك ديدنه مثلما فعل في روايتيه خافية قمر ومقامات عربية.
في روح نوفل تسكن الرعشة رغم أن أعضاءه مكتملة، هكذا يراه عبَّاس، يتمنى تلك الأعضاء أن تكون في جسده، أو يتمدد هو في ذلك الجسد، وبقوة روحه يستطيع أن يطرد تلك الرعشة، نوفل مهزوم روحيًا، الكساح في روحه، خسر موهبته، وصار رزقه يومًا بيوم، ضاعت حياته الأسرية وتشققت ونتج عنها ضياع الولد والزوجة، أما عبَّاس فقد داوى كُساحه الجسدي بروح وثابة، وسخرية من كل شيء، أغلب أعضائه ذهبت في الحرب، لكن ظلَّ لسانه قويًا، باترًا، لا يكف عن السخرية، يدور الحوار بينه وبين ويكا:
– عباس يقدر على كلِّ شيء.
– لم يبق منك إلا لسان.
– تخلصتُ من أشياء كثيرة لا تلزمني، خلعتها ورميتها، أما اللسان فهو نصف الرجل.
لغة الرواية الساخرة
عباس يسخر من عاهته، ويحولها إلى مزحة ليواجه بسخريته هذه واقعه المرير ومأساته التي جعلت منه نصف إنسان لا يستطيع أن يمارس حياته الطبيعية، فعندما ينوي الزواج تقترح عليه ويكا سيدة في عمر أمه عوراء، ربما لم تر هيئته بالكامل، وهذا سبب موافقتها على الزواج منه، تبدو لغة الحوار مكثفة، دالة، جملها قصيرة، تصل جملة بعض الحوارات إلى كلمة واحدة فقط.
اللغة الساخرة التي أدارها الرَّاوي عبر صفحات الرِّواية مناسبة لتلك الشخصيات التي تقف على تخوم البشر، لا تتجاوز مرحلة الأعراف، لا تقفز لتغير من اتجاه سيرها، لأن الجسد المسجونة فيه يحكمها، ويُقيد روحها، لكن يتبقى سؤال يتمدد في شريان النص الروائي: هل تحوُّلات الجسد ناتجة عن قهر تمارسه المدينة على سكانها، بمعنى أقرب تمارسه على شخصيات الرِّواية؟
هل الجسد تشوَّه بفعل خَلقي وُلدت به الشخصية، أم نتج بفعل قوى بشرية هي الحرب التي يُوقدها الإنسان ويكتوي بنارها في الآن نفسه؟
تبدو الإجابة جليَّةٌ على جسدي البطلين عبَّاس ونوفل ومصائرهما المؤطرة في حدود المكان الذي يسعيان في أرجائه، كل على رصيف، يعمل جاهدًا في كسب لقمة العيش، لا يؤمن عبَّاس بمسألة الأرزاق المُقسمة من الخالق، فيَضيق بوجود نوفل، يودُّ إلغاءه من الوجود؛ وجوده هو على الأقل، فيما يتمنى نوفل أن يموت تحت وطأته، ليشهد وهو في العالم الآخر مصير عباس في السجن أو محكومًا عليه بالإعدام.
لكن لماذا لحن الصباح؟
هل ما يُرسم على وجه المدينة كل صباح لحنٌ يُطرب ساكنيها، أم أنه اجترار لإحباطات الواقع المتكررة والناتجة عن أثر الحرب التي تلاها السلام؟ شخصيات الرواية لا تشي بأي شيء يعبر عن أفراح لها، حتى زفاف عبَّاس المرتقب بدأ عبثيًا وانتهى بمأساته هو ونوفل.
يصطبغ جسد المدينة بأجسادِ ساكنيها، وتطير حمائم أرواحهم لتسكنَ في أحضان جدران المدينة، خائفة، مذعورة، وهي ترى التشوُّه يزحف من الجسد إلى الروح، ليقضي عليها، فيستريح، تُعشش الحروب –حتى بعد انقضائها– في الجسد والروح معًا، وبقاء آثارها، ودخانها سنين طويلة، لتتحول المدينة من حرب مُستعرة إلى سلام وهمي، تعلو فيه الأعلام على الأبنية فيما يبقى البشر معلقين على أسياخ الحرب التي تسعى كالنار الكامنة في الرماد، ولأنه سلام قائم على زيف، وشعارات بالتغيير تستقر على أرض خواء لن تتحمل قدمًا تخطو عليها، تستمر الحياة فيما تتوقف الأجساد عن التنفس كل حين، تتقلص رُقع الوُدِّ بين البشر، ينعقُ البُوم الذي نما في الظلام، كبر وضرب بجناحيه، يقتات في الخفاء على أحلام المغلوبين، ومكسوري الخاطر.
مقالات ذات صلة:
رواية تتخيل مبارة كرة قدم بين مصر وإسرائيل
السلام العالمي ومدى امكانية تحقيقه
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا