ذكريات ما بعد الكورونا
بعد غياب أكثر من مئة يوم, ذهبت أمس, وأمس فقط إلى المسجد لأداء صلاة العشاء, وكم كنت أود أن أكون من أوائل الملبين لنداء “حي على الصلاة, حي على الفلاح” بعد تلكم الفترة من الإغلاق, بيد أن إصابتي بالكورونا منعتني من سرعة التلبية؛ نظرا لفترة الحجر المنزلي التي تلت عزل المستشفى؛ لاستكمال العلاج.
المهم, فقد استعددت, وتهيأت, وتوضأت, واغتسلت, واستغفرت, وحوقلت, وتمتمت, واسترجعت, ثم تلثمت كمامتي, وتأبطت سجادتي, وها أنذا أخرج من شقتي, فرحا جذلا, وسعيدا مبتهجا, لأكثر من سبب؛ فهذه هي أول مرة أرى فيها الشارع بعد شهر من المرض, والحجر, وقد غدوت كما لو كنت طفلا يتعلم المشي لأول مرة, فلا أكاد أمشي حتى تتعثر قدماي,
لقد بدا كما لو أنني أكتشف الطريق للوهلة الأولى, أنظر إلى وجوه المارة, أتفرس في ملامحهم, أحملق في شخوصهم, وكأنني أبحث عن شيء ما, انتابتني قشعريرة, فكل شيء أمسى غريبا علي, فهل شهر واحد يجعلني أحس ذلكم الإحساس, لا يمكن, لقد تخيلت أنني قطعت شوطا كبيرا, وطويلا, مع أن المسافة بين منزلي والمسجد لا تتعدى الخمسين مترا!
وقد كانت سعادتي مضاعفة وفرحي أشد؛ لأنني سأؤدي الصلاة في المسجد, بعد أكثر من مئة يوم, بيد أنني لا أخفيكم سرا, وهو أن الشغف لأداء الصلاة في جماعة بدأ –للأسف الشديد– يخفت تدريجيا, وها هي النفس تعتاد صلاة البيت؛ ويبدو أن طول الفترة يقسي القلب, ويهشم الروح, فقد أضحت الأيام تترى دون معرفة أسمائها, وتبيين ملامحها, بعد أن ضاعت الجمعات, وراحت الجماعات, أضف إلى ذلكم أنني ظللت أكثر من عشرين يوما, وأنا أصلي جالسا, لا أقوى على القيام.
دمعت عيناي, وذرفت الدموع حينما أغلقت المساجد في رمضان, فبهتت فرحته, وذهبت فرصته, وتهاوت بركته, مع غياب التراويح, ومنع القيام, حتى أصبحت النفس تهوى الدعة, وتستمرئ الراحة, تزامنا مع فقه واقع جديد, وفتاوى تدعو إلى الكسل, وتركن إلى الراحة, وتستنيم مع دغدغة الضمير.
فتحت المساجد بعد أن أصدرت الوزارة ثلة من الإجراءات الاحترازية؛ منعا لانتشار العدوى, والحد من ذيوع المرض.
إنها الجائحة
وصلت إلى المسجد, يا الله! ما هذا؟ ما عاد المسجد هو ذلكم المسجد الذي أعرفه! بدا كما لو كان شيئا غريبا علي؛ إشارات, علامات أحالته إلى ما يشبه استادا لإحدى الرياضات, خطوط, طول, وعرض, رسومات هندسية, …
لكن أين المصلون؟ تذكرت, هل هذه صلاة العشاء؟! حيث كان هذا المسجد يعج بالمصلين, ويمتلئ بالمبتهلين, لا أخفيكم, فقد أصابني الإحباط, وأحاطني الهم, واستولى علي الألم, عدد المصلين لا يتجاوز العشر, قطع تفكيري صوت السماعة الداخلية, وهي تنبئ بوقت إقامة الصلاة, وبدأ المصلون الذين كنت أعرفهم, لا أكاد أرى وجوههم, وأتبين سحنتهم, بعد أن تمترسوا خلف كماماتهم, وتخندقوا حول خوفهم,
حيث بدأ كل منهم يأخذ مكانه المرسوم له بدقة متناهية, بل إنهم قد بالغوا في المباعدة أكثر فأكثر, حيث غدا الصف الواحد ليس فيه إلا الرجل أو الرجلان, وكل ينظر في حذر إلى صاحبه, كما لو أنه جمل أجرب, أو قنبلة كورونا موقوتة, وتعجبت جدا, يا الله, هل هؤلاء الأشخاص هم أنفسهم الذين أراهم متلاصقين, قد التحمت أجسادهم, وتلامست أكتافهم سواء في المحال أو الأسواق غير عابئين بمرض, أو مكترثين بعرض, هل هؤلاء هم المتعانقون في الشوارع؟
لقد رأيتهم في المسجد, كما لم يكونوا هم, الكل ينظر إلى أخيه نظرة ريبة, وبدأت أسائل نفسي, هل فيروس كورونا لا يظهر أو يتناسل إلا في المساجد, ولا ينتشر إلا بين المصلين؟ فهل عقد معاهدة صلح بينه وبين شياطين الإنس في الشوارع, وشياطين الأسواق؟ بينما لم يبرم أيا من ذلك مع ملائكة المساجد؟
إنا لله وإنا إليه راجعون! إنها الجائحة, وليس لها من دون الله كاشفة, وما كان أحرانا إلا أن نهرع إلى الله, كي يكشف عنا ما نحن فيه, وقد قال في محكم التنزيل: فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا…
وما إن بدأت الصلاة حتى انتهت سريعا, لكنني من فرط تفكيري, لم أنتبه إلى قراءة الإمام, لم أحس بأي خشوع, لم أتذكر ماذا قرأ في الركعتين, لم أسمع إلا نفسي وأنا أقول: آمين
وهنا تبادرت إلى ذهني أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في ضرورة ضبط الصفوف, طلبا للخشوع, يا الله! أين الكتف في الكتف؟ والقدم في القدم يستوي الصف, حينها تذكرت أن الأمام لم يقل: استقيموا يرحمكم الله, ولم يقل: سووا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة,
لم يقل: تراصوا, تقاربوا عباد الله, لا تدعوا فرجة للشيطان, سدوا الخلل, انتهت الصلاة التي لا يعلم مصيرها إلا الله, فانفتل المصلون بسرعة عجيبة, ولم ينبس أحدهم لأخيه بأية كلمة, حتى السلام, نعم حتى مجرد السلام, لم أره! فلله الأمر من قبل ومن بعد!!
اقرأ أيضاً:
فيروس كورونا على أي الأحصنة نراهن؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا