من تاريخ الخيانة .. الجزء الثاني
كان الملك صالح إسماعيل الأيوبي من أشهر الخونة في التاريخ الإسلامي، إذ كان يحكم دمشق وفلسطين، فطمع في ضم مصر إلى مملكته، وكان يحكمها ابن أخيه الملك الصالح أيوب الذي كانت زوجته شجرة الدر، ولما طلب من بعض ملوك الممالك الصليبية مساعدته على محاربة الملك الصالح اشترطوا عليه التنازل لهم عن القدس مقابل ذلك، فوافق وأعطاهم فوق القدس مدينة عسقلان، وأباح للصليبيين شراء السلاح من أسواق دمشق، ودارت معركة شرسة بين الجيشين عند مدينة غزة، وفي النهاية انتصر الصالح أيوب على جيش عمه الخائن إسماعيل والجيوش الصليبية، ففر الصليبيون مهزومين وقد تكبدوا ثلاثين ألف قتيل، أما الصالح أيوب فواصل تقدمه إلى بيت المقدس وحررها وأعادها إلى ديار الإسلام، وهى حسنة سيظل يذكرها له التاريخ.
الدنيا لا تقدم نموذجًا رديئًا للنفس البشرية إلا في مقابلها نفوسًا طاهرة
لقد غضب سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام للخيانة التي ارتكبها الملك صالح إسماعيل للإسلام والمسلمين، وسأل الشيخ تجار السلاح بدمشق: “هل تبيعون السلاح للصليبيين؟” ولما أجابوه بأنهم ليس لهم مورد رزق غير تجارة السلاح، صعد منبر الجامع الأموي يوم الجمعة وأفتى بتحريم بيع السلاح للأعداء، ولم يدعُ للسلطان يومها، كما هي العادة، بل دعا الله أن يستبدله قائلًا: “اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد، يعز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، ويعمل فيها بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك”، فراح المصلون –بما فيهم تجار السلاح– يهدرون خلف سلطان العلماء بقولهم: آمين.
فلما علم السلطان بذلك عزله من الخطابة فلم يهتم الشيخ بذلك وظل ينهى الناس عن التعامل مع الصليبيين، بل ويحرضهم على محاربتهم فاعتقله السلطان، واعتقل معه الفقيه أبو عمر بن الحاجب، ثم أفرج عن العز بن عبد السلام وحدد إقامته، فقرر العز الرحيل إلى مصر، فاعتقله السلطان بالقدس فظل معتقلًا فيها إلى أن حرره جيش الملك الكامل في أثناء زحفه لتحرير دمشق والشام من الحكام الخونة، فسافر الشيخ إلى مصر ليواصل رسالته الجهادية، محرضًا على قتال الصليبيين والتتار في ظل حكم الأيوبيين والمماليك، فلم يذكر التاريخ اسمه إلا مصحوبًا بآيات الإجلال والتوقير، في حين لا يذكر الخونة إلا مصحوبين باللعنات.
خيانة الملك الكامل
لكن الملك الكامل نفسه وقع في الخيانة الكبرى التي يندى لها الجبين حين سلم القدس بيديه للصليبيين، فحين استلم الملك الكامل حكم مصر بعد وفاة والده الملك العادل بن أيوب، أخو صلاح الدين الأيوبي، وشريكه في تحرير بيت المقدس. هب الكامل لمحاربة الحملة الصليبية الخامسة وقيادة الجيوش ضدها بنفسه، وقد انتهت بجلاء الصليبيين الذين توجهوا لأول مرة إلى مصر لأنهم يعلمون أن سقوطها سقوط لبيت المقدس، وفي هذا الوقت بدأ المغول بقيادة جنكيز خان حملاتهم، مما دفع الملك الكامل إلى أن يعرض الصلح على الصليبيين وتسليمهم جميع ما حرره صلاح الدين، لكنهم رفضوا عرضه لاعتقادهم بأن انتصارهم مؤكد.
لكن –وعلى عكس ما توقعوا– فقد تعقدت الحرب على الصليبيين، لهذا طلبوا من الكامل أن ينفذ وعده بتسليم بيت المقدس، فوقع معهم اتفاقية يافا، التي تضمن تسليمهم مدينة القدس وبيت لحم وشريط من الأرض ينتهي إلى يافا، وكذلك مدينة الناصرة وغيرها.
الخونة من النصارى بدمشق
في ظل الاحتلال التتري لدمشق عام 658 هـ، دفعت الخيانة قطاعات من النصارى بدمشق للانحياز إلى التتار، ووصف المقريزي هذه الخيانة فقال: “لقد استطال النصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرمانًا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم، وإقامة دينهم، فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد، وألزموا أرباب الحوانيت القيام إذا مروا عليهم بالصليب، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب، وصاروا يهتفون في الشوارع: «ظهر الدين الصحيح دين المسيح»، وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم”، لكنهم نالوا جزاء خيانتهم وتلقوا عقابهم بعد هزيمة التتار في عين جالوت.
خيانة الصفويين
عندما سقطت غرناطة بالأندلس عام 897هـ بدأت غزوة صليبية جديدة، بقيادة الملاح البرتغالي «فاسكو دي جاما» تحت شعار «التوابل والمسيح»، أي الاستيلاء على ثروات الشرق وتجارته وتنصير المسلمين.
ذلك في الوقت الذي بدأت فيه الدولة العثمانية زحفها على البلقان ووسط أوروبا، لتخفيف الضغط على المسلمين في غربي أوروبا، فخرجت الدولة الصفوية الفارسية، بقيادة الشاة «إسماعيل الصفوي» عن الولاء للأمة، وتحالفت مع الصليبيين البرتغاليين، فغزت العراق والحدود الشرقية للدولة العثمانيةـ الأمر الذي اضطر الجيوش العثمانية إلى الانسحاب من أسوار فيينا عام 935هـ، ولقد تكررت هذه الخيانة الصفوية على عهد الشاه الصفوي «نار شاه» وكانت هذه الخيانات السبب في منع الفتح العثماني لأوروبا، لدرجة أن أحد المستشرقين البلجيك كتب يقول: “إنه لولا خدمات الصفويين لكنا نقرأ القرآن في بلجيكا”.
لكن الدولة العثمانية نجحت مع ذلك في حماية الشرق من غزو الصليبيين البرتغاليين، ومنعت الغزو الغربي للشرق قرونًا عدة، كما تمكنت من إقامة دول إسلامية في أوروبا، ولم يستفد الصفويون من خيانتهم للمسلمين ولم يحصلوا على مقابل لها إلا اللعنات تطاردهم عبر التاريخ.
لقد وصل بعض الخونة من الحكام المسلمين إلى آفاق في الخيانة غير مسبوقة، وحققوا منها مستويات تفوق الخيال، لدرجة أن بعض الحكام الخونة في الأندلس تحول من الإسلام إلى النصرانية لكي يحكم تحالفه مع الأعداء ويبرهن لهم على خالص ولائه فيأمن جانبهم.
وللحديث بقية…
مقالات ذات صلة:
نرى تاريخنا بالطريقة التي كتبها الغرب
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا